القضاء يعنى الحكم، والحكم يقتضى قضية ومتخاصمين وحاكمًا يقضى بالعدل؛ والحاكم صفة من صفات الله العلى القدير، ولعظم شأن القضاء؛ استخلف الله له الرسل والأنبياء، وهو من الولايات العظمى، التى كان الصالحون على مر العصور يقدرونها قدرها الحق، فيزهدون فيها، ويرغبون عنها؛ استبراءً للدين والعرض، وخوفاً من حيفٍ، أو إقراراً لظلمٍ، أو ميلاً لهوى، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ". ومنذ افتتاح المحاكم الأهلية 1883م، وبسط السيادة القضائية على كل ربوع مصر، كان للقضاء المصرى وخلال تلك المسيرة الحافلة؛ وقفاتٍ جليلةٍ، وصفحاتٍ بيضاء منتصرة للحق، تنحنى أمام سطورها الرقاب احتراماً وإجلالاً، يوم كان القضاء رسالة للحق، وقاعاته محراباً للعدل، ورجاله هاماتٍ شَمّاء، واسعة الثقافة، عميقة الفكر، والمرافعات بين يديه خطب بليغة عصماء؛ يتبارى فيها المحامون فى قطف زهور لغتنا الجميلة، لينثروها على أسماع أساطين القضاء فى عبارات رصينة جزلة، تستميل القلوب وترقق المشاعر، يجولون فيها شعراً ونثراً استهلالاً واستفتاحاً بآى الذكر الحكيم، ثم يعرجون على مواد القانون شرحاً وتفسيراً، فى كفالة تامة لحق الدفاع وإكباراً لدوره، وكانت أحكامه فى واقعها عنواناً للحقيقة، كقيمة عدلية رفيعة، تصدر عن تجرد عن الأهواء، وترفع عن الصغائر، هذه القامات تفانت ووهبت نفسها جنوداً للحق وفرساناً للعدل، وكانت دوماً عصية على الترويض، راسخة على المبدأ كالجبال الرواسي، لا سلطان عليهم فى أحكامهم إلا نقاء ضمائرهم، ونبل مقاصدهم؛ فتركوا لنا تراثاً معرفياً بلغت شهرته الآفاق من الأحكام والمبادئ القانونية العظيمة. ولم يكن طريق القضاء المصرى العريق مفروشاً بالورود بعد أن تحقق له الاستقلال بموجب الدساتير المتعاقبة، وبعد أن اكتمل بنيانه بإنشاء محكمة النقض عام 1931م، والأخذ بفكرة ازدواج القضاء بإنشاء مجلس الدولة عام 1946م؛ ليكون قاضى الشعب ضد عسف السلطات، فقاوم القضاء الأدلجة وانتصر دائمًا لفكرة الاستقلال، وهو ما جعل النيل منه واختراقه هدفاً لأنظمة البطش والطغيان. ولا شك أن القضاء قبل ثورة 25 يناير البيضاء؛ عاش مرغماً كباقى فصائل المجتمع بيئة الفساد التى عمت، وتجرع إفرازات النظام، حيث سادت ثقافة تبادل المنافع (شيلنى واشيلك) وترنحت القيم والمثل، وخضعت الأخلاق لقانون العرض والطلب، وساد الخلط بين المال العام والخاص، واُستحل الأول لحساب الثاني، وانجرف البعض؛ وهم قلة إلى دروب المفاسد، حين برهن الكثيرون على غلبة الخير على الشر، وظهور الحق على الباطل؛ فقبضوا على مبادئهم، كالقابض على الجمر، ولم يعبأوا بالمغريات، لكن فى النهاية نال القضاء من الأدران، ما نال غيره من مؤسسات الدولة. وفى شأن القضاء تنوعت مظاهر الفساد إما فى صورة تلقى المنافع والعطايا من أجل الإخلال بواجب الوظيفة العامة، وهى أظهر صور الانحراف الوظيفى وأكثرها فجاجة؛ أو ممارسة أنشطة ممنوعة على القضاة بحكم وظائفهم، أو الإفساد بشكل مقنن عن طريق ما يعرف بالندب (وهى أن ينتدب القاضى بمبالغ تفوق أضعاف ما يتقاضاه من عمله الأساسي؛ ليعمل مستشاراً لجهة التنفيذ، فيصبح جزءًا منها يدين لها بالولاء والسمع والطاعة) وهو ما يقدح فيما ينبغى أن يكون للقاضى من الحيدة والاستقلال. وقد أسيء استخدام هذا العمل فى غالب الأحيان لُيمنح على غير أسس موضوعية لأهل الثقة والحظوة، ومن ترضى عنهم جهات الإدارة، بما يخل بمبدأ المساواة بين القضاة، وهو ما حدا بأصوات شريفة من داخل المؤسسة القضائية، إلى المطالبة بإلغاء عملية الندب بالكلية، أو الأخذ بفكرة الندب الكامل، تنزيهاً للقضاء عن شبهات التربح، ولو كان على أساس من القانون. ولا يقدح فى هذا التوجه (إلغاء الانتداب) التعلل بأن عمل القاضى منتدباً لدى جهات الإدارة يثرى العمل القانوني، ويقلل من الأخطاء التى تشوب تصرفاتها، وهذه حجة مدحوضة؛ ففى قضايا الخصخصة كانت للوزارات كتائب من المستشارين، يساندون بالفتوى والمشورة، ومع ذلك أبطل القضاء تصرفات وعقود بعض الإدارات وأسقطها بما اقترن بها من استشارات، ولما اعتراها من فساد وانحراف. ( وللموضوع بقية بمشيئة الله).