عندما أصر نواب حزب الأغلبية في البرلمان المصري على الصياغة الغريبة لتعديل المادة (76) من الدستور المصري لتجعل من اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر بدلا من الاستفتاء، كما اقترح الرئيس مبارك، وهى الصياغة التي اعترضت عليها أحزاب المعارضة وفقهاء القانون، والتي جعلت من هذه المادة (بعد التعديل) أشبه بفصل في كتاب. عندما حدث ذلك طالبنا أمام هذا الأمر الواقع الجديد بأن يكون الاستفتاء الشعبي لإقرار التعديل مكونا من سؤالين: الأول حول مبدأ التعديل وجعل اختيار الرئيس بالانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح، والثاني حول صياغة المادة وما تضمنته من تفاصيل جاوزت الحدود الدستورية. وقلنا إنه لن يضار أحد إذا أجاب الناخبون بالإجماع (وهو المتوقع) على مبدأ التعديل، ثم اعترضوا بالغالبية (وهو المتوقع أيضا) على صياغة المادة، ليعود مجلس الشعب فيبحث الأمر مجددا، ويعيد صياغة المادة وطرحها على الناخبين في استفتاء جديد.لكن فقهاء الموافقة وترزية القانون أصروا على موقفهم، وأدخلوا المجتمع المصري في أزمة سنعاني منها طويلا، وتسببوا في قطع الحوار بين القوى السياسية وفي احتقان مازالت آثاره تطغى على حركة الشارع السياسي. ورغم فداحة الآثار التي ترتبت على هذا المسلك، فقد مضي فقهاء الموافقة وترزية القانون في طريقهم وهم بصدد إصدار مجموعة من القوانين السياسية التي تتضمن تعديلات مهمة حول انتخابات الرئاسة وحول الأحزاب السياسية ومباشرة الحقوق السياسية.وكان قانون انتخابات الرئاسة مثارا لجدل شديد أثيرت فيه قضايا مهمة حول شروط الترشيح، وارتفعت أصوات عديدة تطلب عدم ازدواج الجنسية بالنسبة للمرشح للرئاسة. وتشترط أداءه للخدمة العسكرية وتقديمه لإقرار بذمته المالية، وتجادل حول آليات المراقبة وضمان النزاهة في العملية الانتخابية، وكفالة تكافؤ الفرص بين المرشحين. لكن فقهاء الموافقة وترزية القانون أصموا آذانهم ورفضوا إدخال أي تعديلات، حتى تدخل الرئيس مبارك شخصيا وأعطى تعليماته بالاستجابة للمطالب الخاصة بعدم ازدواج الجنسية واشتراط أداء الخدمة العسكرية وتقديم إقرار الذمة المالية. وعلى الفور، تقدمت الحكومة لمجلس الشعب تطلب التعديل، وبدون تأخير انقلبت الأوضاع وابتلع ترزية القانون كرامتهم التشريعية، وتسابقوا في تأييد التعديلات التي كانوا يعارضونها قبل ساعات!!.وبعد إقرار القانون أحيل إلى المحكمة الدستورية لإبداء الرأي المسبق فيه على سبيل الاستثناء، لأن التشريع المصري لا يأخذ بالرقابة المسبقة على القوانين، ولكن جاءت هذه الخطوة لتفادي الطعون في انتخابات الرئاسة بعد ذلك. وكانت المفاجأة أن المحكمة الدستورية العليا قررت عدم دستورية عدد من مواد القانون، وعلى الفور أعاد الرئيس مبارك مشروع القانون إلى مجلس الشعب لإجراء التعديلات المطلوبة، وأعلن رئيس مجلس الشعب التزام المجلس بتنفيذ رأي المحكمة، الذي جاء كما قال في محله تماما!!. وما حدث مع هذا القانون يضعنا أمام بعض الملاحظات:أولا: إن العملية التشريعية قد لحقها ضرر كبير في السنوات الماضية، وصياغة القوانين يشوبها الكثير من العيوب التي أدت سابقا إلى الحكم بعدم دستورية عدد من القوانين، وأدت إلى تراكم قوانين استثنائية يعتريها الفساد القانوني، ولا يعود ذلك إلى قلة الكفاءات القانونية والدستورية، وإنما إلى سيطرة زترزية القانونس على عملية التشريع وسيادة زمنطق الموافقةس بدلا من الحوار الذي يبحث عن الحقيقة. فالقضية ليست أن صناع القوانين لا يعرفون مواطن الخلل فيها، ولكنهم يعرفون.. ومع ذلك يمضون في طريقهم مادام هذا هو المطلوب!. ثانيا: إن ما حدث يطرح سؤالا حول: هل يستمر عمل المحكمة الدستورية العليا في مصر بالنظام الحالي، الذي يجعل رقابتها على القوانين بعد صدورها وعندما يثور نزاع قضائي بشأنها، أم نلجأ إلى الرقابة السابقة على القوانين كما حدث مع هذا القانون؟. لقد ثار مثل هذا التساؤل عند تأسيس المحكمة الدستورية وكانت الاغلبية مع الرقابة اللاحقة، ولكن بعدما ظهر من خلل العملية التشريعية فإن التساؤل يعود ليطرح نفسه مرة أخرى!. ثالثا: يمتد الخلل التشريعي إلى ما هو أبعد. ففي أعقاب قرار المحكمة الدستورية العليا، تبادل مجلس الشعب مع الحكومة الاتهامات حول مسؤولية ما حدث. وقال رئيس مجلس الشعب (وهو أستاذ قانون دستوري) إن مجلس الشعب لن يسمع كلام الحكومة بعد ذلك فيما يخالف الدستور «فقد سمعنا كلامها فكانت النتيجة قرار المحكمة بعدم دستورية قانون انتخاب الرئاسة»! ورد كمال الشاذلي قطب الحزب الوطني ووزير شؤون مجلس الشعب: «ولماذا توافقون إذا كان كلام الحكومة غلط»! الخلل ناتج من سيطرة السلطة التنفيذية على باقي السلطات، ومن تحول مجلس الشعب إلى سلطة تابعة، وغياب دوره الحقيقي في الرقابة والتشريع. وإذا كان تدخل الرئيس مبارك من ناحية، ثم قرار المحكمة الدستورية من ناحية أخرى، قد أنقذ قانون انتخابات الرئاسة مما فيه من خلل، فإن قانونا آخر مثل قانون مباشرة الحقوق السياسية، لم يكن له حظ النجاة من آثار الفساد في التشريع. فكانت النتيجة أكثر من أزمة مع الأحزاب السياسية،ومع الصحافة. وإذا كان الخلاف في الرؤية بين حزب الأغلبية وأحزاب المعارضة لابد أن ينتج عنها خلافات حول القوانين، فإن ما أثاره قانون مباشرة الأحزاب السياسية من أزمة مع الصحافة يعطي المثل في الخلل الفادح في التشريع، وغياب الرؤية الشاملة لتطورات الأوضاع في فترة شديدة الحساسية. إن الحكومة تعرف، والحزب الحاكم يعرف، والبرلمان يعرف أن هناك «وعدا» من الرئيس مبارك بإلغاء الحبس في قضايا النشر، وقد صدر الوعد منذ 16 شهرا، ونقلته إلى جموع الصحافيين والرأي العام بعد أن أبلغني الرئيس مبارك به مع افتتاح المؤتمر الرابع للصحافيين المصريين، وقد كنا ندرك من البداية أننا سنخوض معركة من أجل ترجمة «وعد الرئيس» الترجمة الصحيحة، وأن لوبي الفساد وأعداء الحرية سيقاتلون من أجل إفساد هذه الخطوة المهمة. وعلى مدى الشهور الماضية كان هناك صراع مرير ومفاوضات شاقة حول المشروع الذي تقدمت به نقابة الصحافيين، وفي النهاية لم يعد باقيا إلا لمسات أخيرة على ما تم الاتفاق عليه مع وزارة العدل ليخرج القانون إلى النور.ومع ذلك، وفي الوقت الذي كان الصحافيون والرأي العام ينتظرون إقرار القانون ويأملون في أن يصدر الرئيس مبارك تعليماته بنظر القانون في الدورة البرلمانية الحالية، إذا بمجلس الشعب يصدر قانون مباشرة الحقوق السياسية بعد تعديله، وإذا التعديلات لا تقتصر على الإبقاء على عقوبة الحبس في جرائم النشر المتعلقة بالانتخابات، بل تشدد عقوبة الحبس وتضاعف الغرامة!. رسالة سيئة في توقيت سيئ، لا تعبر فقط عن غياب الضمير القانوني المسؤول، بل تشير وهذا هو الأخطر إلى عدم استيعاب ما يجرى من تحولات أساسية في المجتمع، وإلى أن العقلية التي سادت في العمل السياسي والتشريعي في العقود الماضية مازالت تقاوم الإصلاح الحقيقي وتسعى لتخريب كل خطوة جادة على الطريق الصحيح. إن توالي الأخطاء في التعامل مع واقع يتحرك بسرعة أمر يثير أشد القلق. والقضية أكبر من مادة في قانون، أو خيبة في التشريع. القضية أن يدرك الجميع أننا أمام مرحلة جديدة ومختلفة.. لها آلياتها، وظروفها. وأن قواعد اللعبة تغيرت، أو لابد أن تتغير، وأن توضع القواعد الجديدة بمشاركة الجميع وبوفاق وطني يتسع مداه للوطن كله. ومرة أخرى، أشدد على الحاجة إلى قرار بتشكيل اللجنة الوطنية للدستور، لتقوم بمراجعة شاملة للدستور والقوانين السياسية المكملة له في ضوء المستجدات السياسية والاجتماعية. ومرة أخرى وبعد انكشاف الفساد في العملية التشريعية أدعو إلى تأجيل انتخابات مجلس الشعب لستة شهور، يتم خلالها إعداد قانون جديد للانتخاب بالقوائم النسبية لتجرى الانتخابات القادمة في ضوئه، ويضع الضمانات لنزاهة الانتخابات وسلامتها. فمجلس الشعب القادم هو الذي سيناقش الدستور الجديد، وهو الذي سيضع القواعد لانتقال آمن للمجتمع من مرحلة إلى مرحلة.. ويا ويل مصر إذا جاء صورة مكررة من البرلمان الحالي!. ------- صحيفة البيان الاماراتية في 4 -7 -2005