أعلن ديفيد وولش مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط أن بلاده لا تصر على وجود مراقبة دولية على الانتخابات الرئاسية المقبلة في مصر الخريف المقبل، وان الأمر متروك للحكومة والشعب المصري. كلام جيد حقا يكشف عن وعي عميق بالشخصية المصرية، وعن احترام أعمق لمبدأ السيادة الوطنية الذي كرسته الحداثة السياسية منذ صلح وستفاليا منتصف القرن السابع عشر. ولكنه يتناقض مع كل الكلام الأميركي منذ أجريت الانتخابات العراقية في يناير الماضي، عندما دعت وزيرة الخارجية السيدة رايس وجاوبتها أبواق الإعلام الأميركي . وعلى رأسه السيد توماس فريدمان صاحب النفوذ الكبير في عمليات صك الاصطلاحات الجديدة، إلى تعميم «ربيع بغداد» على المنطقة كلها، ثم قيامها بترويج قرار الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور لكفالة إجراء انتخابات رئاسية تعددية بدلا من نظام الاستفتاء المعمول به منذ قيام ثورة يوليو، باعتباره نتاجا لربيع الديمقراطية في بغداد وقد هبت نسائمه على القاهرة. وفى هذه الأثناء تعالت المطالبات الأميركية بالإفراج عن الدكتور أيمن نور رئيس حزب الغد المعتقل على ذمة التحقيقات في قضية جنائية مما اعتبر تدخلا في أعمال القضاء المصري! كما تناثرت الأخبار عن حوار بين الولاياتالمتحدة وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة عن الشرعية لترتيب أمور البيت المصري معها تحسبا لوصولها إلى السلطة فيما يعني تخليها عن إرث صداقتها مع النظام القائم، ودفع المقامرة إلى حدود المجهول خلف الوعد الديمقراطي. غير أن الخطاب السياسي الأميركي قد شهد تغيرا واضحا لكل ملاحظ لما يتعلق بقضية الإصلاح الديمقراطي في مصر منذ زيارة الدكتور احمد نظيف رئيس الوزراء إلى الولاياتالمتحدة قبل نحو الشهر، وهو ما بدا في رد الفعل الضعيف على ما طيرته وكالات الأنباء من أخبار حول الانتهاكات الأمنية للجمهور وبخاصة النشطاء السياسيين من حركة «كفاية». ومن الصحافيين، وقوى المعارضة، وصلت إلى ممارسة أعمال البلطجة من قبل مدنيين تابعين للدولة والحزب الحاكم ضد ناشطات فيما يشبه التحرش، وفى وقائع عدة لا تزال قيد التحقيق من قبل النائب العام المصري، وتنامى بعد ذلك وصولا إلى التصريح الأخير عن ترك الأمر لأصحاب الديار. أخشى أن يفهم القارئ أنني أحرض على دور أميركي في إصلاح الشأن المصري خصوصا أو العربي عموما، فطالما كتبت منتقدا ربيع بغداد الذي يراق على مذبحه دم إخواننا يوميا، وشرف أخواتنا بل وإخواننا أحيانا في سجن أبو غريب، كما أزهقت من أجله سيادة العراق أحد أركان أمتنا الذي ابتلى بالاحتلال الأميركي، قدر ابتلائه بالنظام البعثي. ولا أحد يعلم حتى الآن متى ينتهي الاحتلال الأميركي، كما لا يمكن لأحد ان يتصور صورة عراق ما بعد الاحتلال. وهل يصبح قاعدة عسكرية أميركية، أم موطئ قدم لإسرائيل في المنطقة، أم يتدهور به الحال من الاستبداد إلى التفكيك، أم تحدث المعجزة التي لم تقصدها الولاياتالمتحدة بالقطع، ولكن قد يفرضها دهاء التاريخ ويبقى العراق موحدا، عربي الهوى، يتمتع بفضيلة الحرية هذه المرة فيظل ركنا في أمتنا، وربما ضلعا يعمل كركيزة ديمقراطية لتحررنا، ومن ثم قوة طرد مركزية للهيمنة الأميركية ؟ ولكن ما أخشاه أكثر هو ان يظل المصريون والعرب أو حتى جزء صغير منهم أسرى الخطاب الرسالي الأميركي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو خطاب مراوغ لعقل سياسي انتهازي لا يكترث إلا بديمقراطية الإنسان الأميركي التي من أجلها يتم احتلال أرض الآخرين. ومصادرة حريتهم وسيادة أوطانهم، كما فهمت فرنسا القرن الثامن عشر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة على أنها مزية الإنسان الفرنسي الذي من أجله حاربت كل ملكيات أوربا في القرن الذي يليه، وكما فهمت هذه الملكيات نفسها بعد ذلك الحداثة والعقلانية باعتبارها مزية الإنسان الأوروبي الذي من أجله تم استعمار العالم كله شرقا وجنوبا. وفيما بينهما كان العالم العربي الذي عانى نحو القرنين من الاستعمار الأوروبي، والاستيطان الصهيوني، ثم التدخل الأميركي تحت تبريرات عديدة توالت مع العقود، وتغيرت عناوينها بتغير الظروف، وظل جوهرها واحدا هو ذلك الشعور العميق بتفوق الغرب واستثنائيته عرقا ولغة كما ذهب العنصريون، وتاريخا وتجربة كما ذهب المعتدلون. وإن بقي الجميع في أسر المركزية الغربية وخطابها المهين منذ الزمن الذي تحدثت فيه عن الدور الرسالي للرجل الأبيض في نشر المدنية والحضارة تطعيما للعالم بلقاح التقدم ضد أمراض التخلف. وحتى ذلك الزمن الكئيب الذي يتحدثون فيه عن دور الكاوبوي الأميركي وفوضاه الخلاقة في فرض الديمقراطية على العالم العربي الإسلامي بالذات لتخليصه من فيروس الإرهاب. وكما كانت أوربا كاذبة تتوسل إلى المستعمرات، فإن أميركا مراوغة تنزع إلى الهيمنة، ولا يهمها أن يصبح العالم العربي ديمقراطيا، فهي تريده فراغا استيراتيجيا إلا من تجار الأفكار، وسماسرة الأوطان، وحكام على شاكلة جنرالات الموز في إمرة قواتها العسكرية، وخدمة أسواقها الاقتصادية، وأسرى لربيبتها الصهيونية حتى لو اضطرت لمرافقة الشيطان، والمراوغة بالديمقراطية على حساب كل قيمة وطنية، أو فضيلة قومية. ----- صحيفة البيان الاماراتية في 5 -7 -2005