تتعرض المسيرة الوطنية المصرية من أجل الإصلاح والتغيير لخطر التشرذم الذي يشتت قواها، ليضعف من قدرتها على تحقيق ما نهضت من أجله. ومن أسف أن الجماعات المنخرطة في تلك المسيرة لم تنجح حتى الآن في التنسيق بين قواها أو توحيدها، الأمر الذي يهدد بإهدار فرصة اللحظة التاريخية السانحة، التي عبئ الشارع المصري بشكل لافت للنظر لصالح قضية التغيير، حتى حدث توافق وطني واسع النطاق في هذا الصدد. واقترنت تلك التعبئة بارتفاع صوت الشارع، وسقوط حاجز الخوف والتردد لدى الجماهير الطامحة إلى الإصلاح، والراغبة في إجرائه بالطرق السلمية. ولم يكن ذلك مقصوراً على المجموعات المسيَّسة أو قطاعات الشباب، وانما شمل أيضاً قطاعات لها وزنها المعتبر في المجتمع مثل القضاة وأساتذة الجامعات، حدث ذلك كله في ظل مناخ دولي مؤات إلى حد كبير، تعد قضية الإصلاح السياسي أحد عناوينه الرئيسية. كان إقدام الرئيس حسني مبارك على اقتراح تعديل المادة 76 من الدستور المصري، ودعوته إلى انتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت المباشر، بين أكثر من مرشح، دلاً من نصها الذي كان يقضي بالاستفتاء على مرشح وحيد للرئاسة تختاره أغلبية مجلس الشعب (البرلمان)، هذه الخطوة كانت الشرارة التي أطلقت طاقة الرغبة الجامحة في الإصلاح السياسي والتغيير، وهي الطاقة التي ظلت مختزنة طول الوقت. وكانت الأحزاب السياسية التقليدية تعبر عنها بين الحين والآخر، إلا أن فتح الباب على ذلك النحو لتعديل إحدى مواد الدستور أحدث ثغرة في جدار الصمت والحذر، وهذه أسهمت مع عوامل أخرى يتعلق أهمها بعملية انتقال السلطة و«السيناريوهات» المتعلقة بها في المستقبل المنظور، في رفع سقف الحوار حول قضية الإصلاح. التطور المهم الذي حدث في مصر منذ الربيع أن الشارع صار طرفاً فاعلاً في الحوار حول قضية التغيير، بحيث لم يعد الأمر مقصوراً على حوار الحزب الوطني الحاكم مع الأحزاب التقليدية (19 حزباً)، وانما دخلت على الخط تجمعات وطنية أخرى، تجاوزت الدائرة القائمة، في شخوصها وفي سقف مطالبها، وإن رفعت الراية ذاتها، الداعية إلى الإصلاح والتغيير. وبسرعة مثيرة للانتباه تكاثرت تلك الجماعات وتوالدت، حتى وصل عددها خلال ثلاثة أو أربعة أشهر إلى 14 مجموعة، وإذ قال أغلبها معبراً عن فئات معينة ذات توجهات سياسية أو مهنية، إلا أن حركة «كفاية» التي ظهرت مبكراً في الأفق بدت واجهة أعرض من غيرها، من حيث أنها جذبت أغلب الاتجاهات ومختلف الأطياف بين النخبة المصرية، حتى صارت أقرب إلى «الجبهة الوطنية» التي ينشدها كثيرون، وإذ جذبت لافتة «كفاية» قطاعاً واسعاً من المثقفين، كما أنها حققت حضوراً إعلامياً سريعاً، بالشعار الآسر الذي رفعته والصيغة المبتكرة التي اعتمدتها، إلا أن حضورها في الشارع المصري لم يكن قوياً، لأن حداثة عمرها لم تمكنها من استقطاب الجماهير خارج المدن الكبرى، فضلاً عن أن أكثر رموزها لم تكن معروفة للناس بشكل جيد، ولذلك فإن درجة الإجماع الوطني حول فكرتها ظلت أعلى بكثير من درجة الإجماع حول قادتها ورموزها. بعد حين ظهر في الساحة كيان جديد باسم «التجمع الوطني للتحول الديمقراطي»، رفع بدوره شعار الإصلاح والتغيير، وتبني الأهداف ذاتها التي لم يختلف عليها أحد. وكان أكثر ما ميزه أنه ضم رموزاً بعضها معروف لدى الرأي العام، في المقدمة منهم الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء في المرحلة الناصرية، الذي يشار إليه باعتباره «أبو الصناعة» المصرية وهو ما حقق نقطة لصالح التجمع الجديد، تقدمت بها نسبيا على حركة «كفاية»، لكنها لم تحل مشكلة التوافق المفترض بين الرأس والجسم، فبقي مفتقدا إلى تأييد الشارع العريض، وظل كيانا نخبويا إلى حد كبير. خلال تلك المرحلة برزت ملاحظة مهمة هي أن حركة الإخوان المسلمين التي تملك رصيدا معتبرا في الشارع المصري لم يكن لها حضورها المفترض في الساحة المطالبة بالتغيير، وظلت مشاركتها في التجمعات والمناسبات الداعية إليه رمزية لا تتناسب مع ثقل الجماعة المشهود لها بالكفاءة التنظيمية العالية. ظل الجميع حريصين على انضمام الإخوان المسلمين إلى المسيرة وانخراطهم في مجراها العام، ولكن الواضح أنهم تعاملوا مع الوضع المستجد بدرجات متفاوتة من التردد والحذر، تمثل التردد في أنهم تأخروا لعدة اسابيع في تحديد موقف من المطلب المستجد للإصلاح كانت لهم مطالبتهم القديمة به، ناهيك عن أنهم يحسبون ضمن ضحايا غيابه، أما الحذر فقد كان واضحاً في أمرين أولهما المشاركة الرمزية وليست الفاعلة في أنشطة التجمعات الجديدة، وثانيهما أنهم اختاروا الاحتفاظ بمسافة مع حركة «كفاية»، أو على الأقل فإن تلك هي الرسالة التي تلقاها ممثلو الحركة في أعقاب اجتماعين عقداهما مع قيادة الإخوان، كان كل منهما أكثر سلبية من الآخر، حسب تعبير أحد أعضاء «كفاية». لم يستمر غياب الإخوان، وإنما نظموا مظاهرات سلمية حاشدة في عدد من المحافظات طالبت بإلغاء الطوارئ وإجراء إصلاح حقيقي، قوبلت بموقف شديد من جانب الشرطة، وأدت إلى اعتقال أكثر من 2500 عضو منهم، لكن تلك المظاهرات توقفت بأسرع مما كان متوقعاً، ولذلك فإنها لم تحدث أثراً يذكر، وبدت كما لو كانت أقرب إلى تسجيل الموقف واستعراض القوة. بعد حين دعا الإخوان إلى تأسيس كيان جديد باسم «التحالف الوطني من أجل الإصلاح والتغيير»، وعقدوا لهذا الغرض مؤتمراً في مقر نقابة الصحافيين (في 30/6) أعلنوا فيه تأسيس التحالف، الذي تبنى نفس الدعوة والمطالب المعروفة في الساحة المصرية، وشارك في ذلك المؤتمر أعضاء من خمسة تجمعات سياسية أخرى أعلنوا في وقت لاحق أنهم يشاركون بصفاتهم الشخصية، وتعبيراً عن التضامن مع مطلب التغيير، وأنهم لا يمثلون أحزابهم. هذه الخطوة جانبها التوفيق إلى حد كبير، أولاً لأنها جاءت متأخرة كثيراً، وعرضت صيغة للتحالف لم تضف شيئاً إلى ما هو موجود بالفعل، الأمر الذي أضاف عاملاً أسهم في تفتيت القوى الداعية إلى الإصلاح، وثانياً لأن الإخوان الذين تبنوا في ذلك المؤتمر خطاباً راقياً ومتقدماً إلى حد كبير، آثروا أن يتحركوا مستقلين، وبعد أن تمنعوا عن الاشتراك مع الآخرين، فإنهم دعوا الآخرين إلى الوقوف على أرضيتهم، وثالثاً لأن الإخوان في محاولتهم قيادة التحالف الجديد تجاهلوا أن ثمة حساسيات إزاءهم تحول دون تشجيع الآخرين على العمل تحت رايتهم، يشترك في تلك الحساسيات الليبراليون والعلمانيون والأقباط والشيوعيون والسلطة، غير قطاعات المثقفين الذين لا يزالون يتوجسون منهم، لأسباب حقيقية أو وهمية. لست واثقاً في إمكانية نجاح التحالف الجديد، لكني أخشى أن تصبح إقامته خصماً وعبئاً على الإجماع الوطني المنشود في هذه المرحلة، وازعم أن الإخوان لو مارسوا فضيلة «الإيثار» وقبلوا بالانخراط مع غيرهم لكان ذلك أحكم من جانبهم وأنفع لمسيرة الإصلاح الوطني، ولكنهم لم يفعلوا ذلك للأسف الشديد، حيث آثروا أن يوظفوا حضورهم وجماهيرهم لصالح التحالف الذي تصدوا لقيادته، وضنوا بها على التجمعات التي تصدرت الساحة قبلهم، وسبقتهم إلى رفع لواء التغيير، وكانت النتيجة أنهم احتفظوا برصيدهم لصالح الجماعة وحجبوه عن الوطن. أثار انتباهي في هذا الصدد ما كتبه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مجلس الإرشاد في مقالة نشرت له أخيرا بجريدة «الدستور» الأسبوعية المصرية (عدد 29/6)، حيث قال ما نصه: أخشى ما أخشاه أن يأتي يوم تتم فيه محاسبة تاريخية قاسية لكل القوى الوطنية والسياسية، بما فيها الإخوان المسلمون، على تهاونهم وتراخيهم في حق وطنهم وأمتهم، حين لا يستوجب الأمر أبداً تهاوناً أو تراخياً. وهذا رأي اتفق معه تماماً، واختلف في نقطة واحدة هي أن نصيب الإخوان في تلك المحاسبة التاريخية القاسية سيكون أكبر، لسبب جوهري هو أنها الأكبر حجماً، ثم أن الأمل فيها أكبر بكثير، كان ولايزال. ----- صحيفة الشرق الاوسط اللندنية في 6 -7 -2005