تبدو صورة الأحوال في مصر لدى محبيها في الخارج مختلفة عن تلك التي يراها المصريون في بلدهم، فالانطباعات السائدة لدى عرب لندن مليئة بالمبالغات ومختلطة بكثير من الشائعات والمعلومات المغلوطة إلى درجة أن بعضهم يكاد يسأل عن النظام المقبل في مصر، وكأن النظام الحالي صار آيلاً للسقوط وآخرين منهم يرون أن مصر تعيش فترة مخاض، وأن الشهور القليلة المقبلة ستشهد نهاية حقبة من تاريخ مصر وبداية لعصر جديد. أيام في لندن ولقاءات مع نخب ثقافية وكتاب ومفكرين وصحافيين وشخصيات عامة من العرب، كانت كفيلة بأن أغرق في بحر من التساؤلات وأمواج من الاستفسارات كلها عن حال مصر وما ستؤول إليه أوضاعها في المستقبل القريب. يسألون في لندن عن جماعة «كفاية» وهذه الجراءة التي ميزت أعضاء تلك الحركة وهذا الإصرار على مواجهة الحكم وتحديه. والبعض لا يعرف أصلاً أن «كفاية» مجرد حركة ضمت رموزاً من تيارات سياسية مختلفة لا يجتمعون حول برنامج للحكم وإنما حول مطالب تتعلق بالإصلاح السياسي، ولذلك يسأل أحدهم هل يمكن أن تحكم «كفاية» مصر؟ يسألون عن أيمن نور ولماذا ذاع صيته بهذا الشكل؟ بعضهم معجب بذكائه وآخرون لديهم ملاحظات على تاريخه، هناك مَنْ سأل عن الأسباب التي جعلت الحكم يمنح نور تلك الشهرة المجانية عبر القبض عليه ومحاكمته؟ وعن ما إذا كان أيمن تجاوز خطاً أحمر فوجب معاقبته أم أن طموحه الجامح فاق قدرة الحكم على استيعابه فكان الصِّدام بين الطرفين؟ يتعجبون في العاصمة البريطانية من انفلات سياسي يسود مصر نتيجة أخطاء للحكم وغياب ثقافة المعارضة وتحول المطالب السياسية إلى سباب وشتائم واستخدام البلطجة والاعتداء على المعارضين كمبرر لحفظ النظام والأمن ويستغربون في لندن جموح قوى المعاضة غير الحزبية إلى استفزاز الحكم بعدما ظلت أجهزة الدولة لسنوات تستفز كل قوى المعارضة بما فيها الأحزاب المستكينة، ويتحدثون عن صراع داخل الحزب الوطني الحاكم بين حرس قديم وآخر جديد، كان سبباً في غياب استراتيجية موحدة للتعاطي مع «معطيات المرحلة» وتناقض مصالح بين قوى المعارضة حال دون توحدها، فكان الانفلات والعراك السياسي. يكاد اسم جمال مبارك يتردد في كل جلسة وعندها تطرح التساؤلات: هل هو الرئيس المقبل؟ أو بعد المقبل؟ وعن سيناريوهات صار من الضروري مراجعتها كي يأتي جمال، لأن ما جرى في الشهور الأخيرة أطاح بأي سيناريوهات كانت معدة سلفاً، هذا ما إذا كان هناك في الأصل سيناريوهات قد أُعدت. يتوقع البعض في لندن ردود فعل صاخبة من قوى المعارضة عند إعلان الحزب الحاكم ترشح مبارك لفترة ولاية خامسة ورغم أن الثقة كبيرة في قدرة الحكم على استيعاب المعارضة وامتصاص أفعالها، وكذلك ردود فعلها، لكن الأمر سيكون مختلفاً بعد الاستحقاق الرئاسي الذي لن يجد فيه مبارك منافساً قوياً، فالانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) محك آخر أكثر قوة وتأثيراً وربما ترسم نتائجها ملامح مصر في المستقبل. يعرفون في العاصمة البريطانية أن مبارك لن يخضع لاختبار قاسٍ في الانتخابات الرئاسية، إلا أن الحزب الوطني سيخوض معارك شرسة مع خصوم عديدين وفي اتجاهات متعددة لا يستبعد أن يكون بعض المنشقين عنه في المقدمة. هل يرشح جمال مبارك نفسه في الانتخابات البرلمانية؟ سؤال أثير في أكثر من مكان ومجال، فالبعض رأى أن مبارك الإبن الذي لم يسند إليه أي عمل تنفيذي ربما يعتبر أن «الشرعية البرلمانية» ستكون السبيل كي يطرح نفسه عبرها كمرشح للوطني للمنافسة على مقعد الرئاسة في المستقبل. لم يطرح أحد السؤال الذي كان يتكرر في الماضي: متى يحكم «الإخوان المسلمون» مصر؟ أشار البعض إلى تصريح مرشد الجماعة محمد مهدي عاكف بأن الإخوان ربما يحصلون على 30 في المئة من مقاعد البرلمان إذا جرت الانتخابات في حرية كاملة، لكن أحدهم رأى في كلام عاكف «مواءمة سياسية»، وحرصاً على طمأنة باقي قوى المعارضة وتفادي إفزاعها. وتحدث البعض عن تحول في موقف الاميركيين من الإخوان ظهر جلياً في كلام وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس أثناء زيارتها الأخيرة لمصر. وتساءل أحدهم: كيف يسعى الاميركيون أصلاً إلى حوار مع الإخوان والجماعة لا تكف عن سب الأميركيين؟ وفي الخلفية يأتي كلام المرشد عاكف في رسالته الأسبوعية إلى أتباعه والذي لا يخلو من تذكير بجرائم الأميركيين ودعوات إلى مواجهتهم. هناك مَنْ رأى أن الغطاء الأميركي الذي وفّرته ضغوط الإدارة الاميركية على الحكم المصري في شأن قضية الإصلاح أفاد كل القوى السياسية أحزاباً وحركات وجماعات، وأن الإخوان استفادوا من هذا الغطاء كغيرهم، إلا أنهم كانوا أكثر حرصاً على ألا يظهروا وكأنهم من المستفيدين، وإلا فأين ذهبت تظاهرات الجماعة؟ فالإخوان تظاهروا حينما كانت التظاهرات تواجه بالقوة وغابوا عندما صار التظاهر سلوكاً شبه يومي واعتيادي، فأيادي الأمن المركزي غُلت حتى أن التظاهرات اقتربت من مقر أمن الدولة. الزاوية التي ينظر منها المقيمون في لندن إلى الأحداث في مصر والحماسة التي تحدث بها بعضهم والقلق من تحول الانفلات السياسي إلى انهيار بنيوي، عكس إلى أي مدى تغوص مصر في قلوب النخب العربية ربما إلى درجة تفوق حرص بعض المصريين على سلامة وطنهم ومستقبله. ----- صحيفة الحياة اللندنية في 7-7- 2005