قبل شهر تقريبا شاركت في إحدي حلقات النقاش في عمان حول تصاعد الدور التركي في المنطقة. كان علي أن أقدم وجهة نظر باحث مصري بشأن تأثير الحركية التركية علي الملفات العربية والاقليمية التي تتعامل معها مصر وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والمصالحة المتعثرة بين حركتي حماس وفتح والوضع في العراق والسودان. ورغم أن الحلقة النقاشية كانت حول تركيا, فقد نال الدور المصري نصيبا كبيرا من النقاش والأخذ والرد. معظم الذين تحدثوا من المسئولين والمشاركين الاردنيين والعرب والمشاركين الأتراك انطلقوا من فرضية تتردد كثيرا بغير وعي وهي أن غياب مصر عن الساحة خلق فراغا أغري كثيرين من بينهم أنقرة للعمل علي ملء هذا الفراغ. مثل هذه الفكرة المغلوطة والمردود عليها لها وجهان, الأول وهو الظاهري المباشر ويتعلق بأن مصر لم تعد قائدة في إقليمها وأن غيابها حسب فهم هؤلاء الظاهري أيضا هو المسئول عن فقدان العرب لبوصلتهم, وهو المسئول أيضا عن خروج الملفات العربية الأصيلة من الأيدي العربية الأصيلة ووقوعها في أيدي إقليمية تستهدف مصالحها بالدرجة الاولي. أما الوجه الثاني فهو الضمني ويعني بأن غالبية العرب ما زال لديهم إيمان دفين بأن مصر هي القائد الفعلي للأمة العربية, وأنهم يؤمنون بأن لا أحد يمكنه أن يملأ أي فراغ ينتج عن غيابها حسب فهمهم لهذا الغياب. وحسب البعض من هؤلاء فهم ينتقدون مصر لأنها الأكبر والأقدر علي حمل المسئولية, وليس هناك سواها. مثل هذه القناعات العربية بجوانبها المختلفة باتت شائعة لدي كثيرين من العرب, منهم مسئولون بارزون ومنهم باحثون ومثقفون وإعلاميون قادة رأي. وهي قناعة تتردد في محافل عديدة عربية ودولية, ونادرا من يكون هناك ليشرح أو يفسر بدقة وموضوعية ما الذي يجري في مصر. وإكمالا للصورة فهناك مصريون يؤمنون بهذه القناعة في جانبها السلبي ويسهبون في التأكيد عليها حين تتاح لهم الفرصة, وبما يؤكد تلك القناعات العربية المشوهة والبعيدة عن الموضوعية. والمفارقة الكبري هنا أن المرء حين يصحح بعض المعلومات التي تبني عليها مثل تلك القناعات المغلوطة يشار دائما إلي أنهم لا يفعلون سوي ترديد بعض ما ينشر في الصحافة المصرية أو يقال في برامج شهيرة في عدد من الفضائيات المصرية التي همهما الأول والأخير تسويد حياة المصريين ليل نهار, والتأكيد علي أن مصر فقدت دورها وخرجت من دائرة التأثير في أي شئ حولها. وهكذا فإن المبالغة في تصوير بعض المشكلات المصرية الاجتماعية أو السياسية يؤدي إلي صياغة صورة ذهنية عن مصر وكأنها علي وشك الانفجار, وأنها لم تعد سوي ركام علي ركام ورماد في رماد. معني القول إن بعض المصريين لا يفرق بين إدارة الدولة للمشكلات الاستراتيجية أو حتي اليومية, وبين مؤسسات النظام من جانب وبين الاستحقاقات السياسية بكل أشكالها من جانب آخر. كما لا يعرف الفارق بين الأداء الحكومي بصعوده أو هبوطه حسب الحالة, وبين الموقف الفكري أو الايديولوجي في تفسير أو تحليل هذه المشكلات. وربما أمكن التجاوز للبعض من المعارضين للحكومة والنظام, فحسب الحقوق الدستورية ومناخ الحرية السائد إعلاميا لهم الحق في تقديم وجهة نظرهم لخدمة موقفهم السياسي أو الفكري. أما ما لا يمكن التجاوز معه فهو أن يكون سلوك مؤسسات هي عنصر رئيسي في منظومة الدولة المصرية ككل, سلوكا ضد النظام العام أو ضد القانون أو قائما علي التحريض دون قرينة أو يصنع فجوة ثقة مع الشركاء الآخرين في الوطن. وكذلك مما لا يمكن التجاوز معه هو أن يكون قادة دينيون بكل ما لهم من تأثير معنوي وديني علي المؤمنين معولا للهدم وليس للبناء, وأن يتحولوا إلي بؤر صدام وتبشير بالطائفية وتشكيل تيارات ذهنية تعلي من التوتر والتربص, وتصبح بالتالي ضد الوطن والمواطنة وضد الاستقرار والوحدة الوطنية. مثل هذه الأخطاء الجسيمة هي التي تقدم صورة مغلوطة ومشوهة عن الوطن وعن تماسكه وعن دوره. البعض منا لا يفرق بين معارضته للحكومة ولبعض القوانين ولكثير من الممارسات السياسية, وبين المبادئ والقيم التي تحمي الوطن وتمنعه من الانزلاق إلي هاوية الانفجار, ويجب ألا تخضع للأهواء أو المزايدات السياسية أو الدينية. بعضنا للأسف الشديد يري الأمور من زاوية ضيقة للغاية; زاوية تحصر الوطن الكبير في مجرد تحقيق مكسب إعلامي أو فرقعة سياسية أو طنطنة دينية علي غير هدي. هؤلاء شيدوا في نفوسهم أوهاما كبارا باتوا يخضعون لها, صوروا بلدهم علي أنه ضدهم في كل شئ, وصوروا لأنفسهم أن الحصول علي الحقوق يأتي بالتطرف في المواقف واستباق الاحداث واصطناع المزايدات والمظاهرات غير القانونية والتعبئة الجماهيرية حتي قبل أن يتحقق المرء من حقيقة الواقعة التي يتظاهر بشأنها. حين يكتب ما يكتب في مصر بأقلام مصرية وفي مصادر مصرية ثم تظهر الحقائق علي غير ما تم التعبئة بشأنه, للأسف الشديد لا يعتذر أحد, ولا يلوم أحد نفسه لانه أساء لبلده وأساء للمصريين جميعا. بل للأسف الشديد يلجأ المخطئون إلي افتعال مواجهة جديدة للتغطية علي الفشل الأول. الاعتذار هنا واجب للوطن ككل, وواجب للمؤسسات القومية والوطنية التي تعاملت مع القضايا كلها باعتبارها قضايا المواطنة المصرية مائة في المائة, وليست قضايا طائفية كما يصر البعض علي غير هدي. ثمة سيولة يجب علي المعنيين بالأمر أن يوقفوها وأن يدركوا أن الاستمرار في مثل هذا الطريق المرعب سيضر بالوطن ككل. ثمة فارق بين المشكلات الشخصية التي تحل في ظل دفء الاسرة وحنان الأصدقاء وحكمة رجال الدين, وبين مشكلات الوطن ككل التي تحل عبر المؤسسات ووفقا للقانون. الخلط بين الأمرين لا يجوز, وافتعال المواجهات سلوك تنقصه الحكمة. مصر ليست بحاجة إلي من يفتعل الأزمات وانما بحاجة إلي من ينمي الشعور بالانتماء, ليست بحاجة إلي التشكيك في وطنية مؤسسات الأمن, وانما بحاجة إلي من يؤمن بالقانون, ليست بحاجة إلي من يقسم الوطن وإنما بحاجة إلي من يوحد الوطن, وليست بحاجة إلي من يثير الغبار بحق أو بباطل, وانما بحاجة إلي من يناقش ويحاور بالعقل والحكمة. مصر شأنها كبلدان العالم أجمع تواجه التحديات وتتلمس الطرق كافة لخدمة مصالحها, وتعيد النظر في أخطاء أو سياسات ثبت فشلها أو محدودية مردودها, وتسعي إلي اتباع سياسات أخري تناسب الوقت والزمن وطبيعة التحدي ومصدره. مهمة المصريين وواجبهم أن يساندوا السياسات الجديدة التي تسعي إلي الحفاظ علي الحقوق التاريخية وليس أن يشككوا فيها حتي قبل أن تختبر في الميدان. مهمة المصريين أن يلتفوا حول بلدهم وليس أن يستعينوا بالخارج لتدمير بلدهم وتجويعه وتشويهه. لقد رأينا جميعا حجم التحدي الذي يحيط بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل, وكم كان مسيئا أن يتطرف البعض ويطرح أفكارا وأطروحات بعيدة عن الواقع والمنطق, ويذهب إلي حد التبشير بالحرب والمواجهة العسكرية. ثمة تحديات تفرض إعادة توجيه البوصلة وتفرض نمطا ديناميكا في التحرك وفي الفكر. تحركات الحكومة تجاه دول حوض النيل مستندة إلي مبدأي الحوار والتعاون تبدو واعدة. ومهمة المصريين هنا ورجال الأعمال والإعلاميين في المقدمة أن يسهموا في انجاح هذه الحركية المصرية الجديدة, وأن ينفتحوا أكثر وأكثر علي إفريقيتهم وعلي مصالحهم الحقيقية وأن يعطوا الفرصة كاملة للحصول علي الثمار المطلوبة, والأهم أن ينتهوا من حديث الحرب والمواجهة, ويركزوا علي حديث بناء المصالح وتشبيك المنافع. مشكلة مصر مع كثير من وسائل الإعلام في الداخل وفي الخارج أن أزماتها هي مصدر متعة للبعض, أما نجاحها في موقف أو في آخر فهو إما مغضوب عليه أو يتم تصويره باعتباره أمرا عارضا أو بفعل فاعل خارجي. وفي كل الأحوال ثمة توافق ضمني متعمد علي تشويه مصر أو حجز نجاحاتها وإغفال الحديث عنها. في الوقت نفسه المبالغة في تصوير نجاحات الأخرين حتي ولو كانت مجرد ضربة حظ عابرة, والتغطية علي فشلهم الظاهر إن حدث, وفي الغالب إعادة تفسيره باعتباره نجاحا مبهرا. وفي ذلك فهم غشاشون لأنفسهم ولأهل وطنهم, ومنافقون للغير. يهللون لحركة هنا أو هناك لا تقدم ولا تؤخر, ويتصورون أنهم بذلك يوجهون للحكومة والنظام الضربة القاضية. وأن تمعنوا قليلا فيما يفعلون لوجدوا أنهم ليسوا أكثر من مخادعين. مشكلات الوطن معروفة والحلول أيضا معروفة, وبالقطع فإن هذه الحلول ليست مسئولية حكومية وحسب, بل هي مسئولية الناس ومؤسساتهم الدينية والأهلية والحزبية والإعلامية. فقليل من التعقل يمنع الكوارث ويحمي الوطن وينصره علي أعدائه.