استدل القائلون باستخدام المنبر فى الشؤون السياسية بأدلة منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم صعِد المِنبَرَ فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "ما بالُ العاملِ نَبعَثُه، فيأتى فيقولُ: هذا لك وهذا لي، فهلَّا جلَس فى بيتِ أبيه وأمِّه فيَنظُرُ أيُهدى أم لا؟ والذى نفسى بيدِه، لا يأتى بشيءٍ إلا جاء به يومَ القيامةِ يَحمِلُه على رقَبَتِه: إن كان بعيرًا له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوارٌ أو شاةً تَيعَرُ"، وأنه صلى الله عليه وسلم صعِد المِنبرَ فى خطبته الأخيرة، فحَمِد اللهَ وأثنَى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصارِ، فإنهم كَرِشى وعَيبَتي، وقد قَضَوا الذى عليهم وبَقى الذى لهم، فاقبَلوا من مُحسِنِهم وتجاوَزوا عن مُسيئِهم"، والمقصود إساءات فى أمور دنيوية، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنتُ مُتَّخِذًا منَ الناسِ خَليلًا لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ خَليلًا، سُدُّوا عنى كلَّ خَوخَةٍ فى هذا المسجدِ غيرَ خَوخَةِ أبى بكرٍ". واستدلوا أيضًا أن عمرَ رضى الله قال لأبى بكرٍ يوم مبايعته: اصعدِ المنبرَ، فلم يزل بهِ حتى صعدَ المنبرَ، فبايَعَهُ الناسُ عامَّةً، وكل هذه الأحاديث أخرجها البخارى فى صحيحه. ولكى نرى موضع هذه الأدلة من النزاع لابد أن نعمل أولاً على ما يسميه الفقهاء (تحرير مناط الخلاف)، للتأكد من كون هذه الأدلة تنزل فى موضعها أم لا، وهنا نلاحظ ونحن نتحدث عن مجال الحديث السياسى فى المساجد أننا بصدد ثلاث تقسيمات هامة لابد أن تؤخذ فى الاعتبار: 1- تقسيم باعتبار الحال: هل هى خطبة جمعة على المنبر؟ أم حديث على المنبر خارج الجمعة؟ أم هو حديث فى درس أو اجتماع داخل المسجد وليس خطبة على المنبر؟ 2- تقسيم باعتبار الموضوع: هل الموضوع هو أمر من الأمور الدينية الدنيوية متفق على أفضليتها، مثل الإصلاح بين الناس، أو الدعوة إلى اختيار الأصلح، أو ما إلى ذلك؟ أم هو أمر دنيوى مختلف فيه كل طرف يظن الحق إلى جانبه (مثل من هو الأصلح، أو مسألة الدستور)؟ 3- تقسيم باعتبار المتحدث: هل هو ولى أمر أم هو من المواطنين العاديين؟ من هنا يمكن تحديد مناط الخلاف عن طريق طرح عدة أسئلة تمثل الإجابة عنها تحديد لعلاقة المسجد بالسياسة: 1- ما مقدار التداخل بين السياسة وبين خطبة الجمعة؟ 2- ما مقدار التداخل بين السياسة وبين الخطابة على المنبر فى غير خطبة الجمعة؟ 3- ما مقدار التداخل بين السياسة وبين الحديث العام فى المسجد فى درس أو خلافه؟ 4- ما الفارق؟ السياسة داخل المسجد بين الحاكم وبين المواطن؟ 5- ما الفارق بين طرح المواضيع السياسية العامة المتفق عليها، وبين المواضيع الخلافية فى المسجد؟ وسنجعل هذه المقالة للإجابة عن السؤال الأول، وتحرير موضع الخلاف الأول، وهو استخدام المنبر يوم (الجمعة) من قبل (آحاد الناس) [مهما علا قدره فهو مواطن مثله مثل أى مواطن] للحديث فى أمور سياسية مختلف فيها (ليس فيها من الله برهان قاطع). وخطبة الجمعة أصلها الأصيل هو الوعظ الدينى البحت وتذكير الناس بالله، وكانت معظم خطب الرسول صلى الله عليه وسلم - وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم - تذكير للناس من القرآن، لذلك أخرج مسلم فى صحيحه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "أخذتُ (ق وَالقُرْآنِ الْمَجِيدِ) من فى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ الجمعةَ وهو يقرأُ بها على المنبرِ فى كل جمعةٍ"، وأخرج أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه وصححه الألبانى عن أبى سعيدٍ الخُدرى أنَّهُ قالَ: قرأَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وَهوَ على المنبرِ (ص) فلمَّا بلغَ السَّجدةَ نزلَ فسجدَ وسجدَ النَّاسُ معَهُ "، لذلك لم يكد يروى شيء من أكثر من أربعمائة خطبة جمعة خطبها الرسول فى المدينة، لأن معظم خطبه كانت قراءة سورة (ق) وسورة (ص) وغيرها من آيات التذكير بالحساب والمآل وأيام الله. وجميع الأدلة السابقة التى استدلوا بها، إما أنها فى خطب خارج خطبة الجمعة، أو أنها فى موضوعات عامة متفق عليها، أو هى من ولى الأمر أو من يمثله، وقياس خطبة عادية على خطبة الجمعة قياس مع الفارق، وذلك للخصوصيات الشرعية والفقهية لخطبة الجمعة، والقياس مع الفارق منعدم، وعليه فلا يجب الخلط بين استخدام المنبر لخطبة الجمعة التى هى شعيرة دينية واجب حضورها وشهودها على كافة المسلمين، الإسلامى والليبرالى والعلمانى وغير المهتم بالسياسة، ولخطيبها حصانة من المقاطعة، وحض الشرع على الإنصات له، ويقر فى قلوب الناس أن ما يقال فيها هو من الشرع بمكان، وبين استخدام المنبر كمكان للخطابة خارج يوم الجمعة، فلا حصانة لصاحبه من المقاطعة، ولذلك حرص الشيخ المحلاوى على التأكيد أن دعوته (لنعم للدستور) لم تكن على منبر الجمعة، وإنما كانت فى الدرس بعد الصلاة، ولو لم يكن هناك تفرقة بينهما لما احتاج إلى قول ذلك، وهذا تحديدًا هو ما أتحدث عنه وأستدل عليه بهدى النبى صلى الله عليه وسلم وفهم العلماء..... (وللحديث بقية). م/يحيى حسن عمر [email protected]