الثورات الكبرى في التاريخ ترتبط عادة بوشائج شتى, ولعل اي مؤرخ منصف يجد ان تاريخ النصف الاول من القرن العشرين شهد 3 ثورات اثرت تأثيرا كبيرا في محيطها وفي السياسة الدولية.. وهذه الثورات الثلاث هي ثورة اكتوبر 1917 في روسيا التي ادت الى قيام ايديولوجية جديدة في العالم ونظام سياسي جديد في روسيا القيصرية ومنها انطلق اشعاع في اوروبا واسيا وافريقيا بل وامريكا اللاتينية, والثانية هي ثورة الصين وتعد بحق هي ام الثورات لانها اعتمدت على الشعب وعلى سياسة النفس الطويل ثم اعتمدت عناصر اربعة في نجاح نموذجها وهي: الحزب والكادر السياسي -الايديولوجية- الجيش واخيرا الزعامة, او القيادة, هذه العناصر الاربعة هي ركائز الثورة الصينية التي تجعل لها طابعها المميز لان هذه العناصر تفاعلت مع بعضها البعض ومع الشعب الذي نبعت منه واستمرت تناضل في صفوفه زهاء 30 عاما حتى وصلت للسلطة عام .1949 وثورة يوليو وهي ثورة او حركة عسكرية قادها الجيش ثم تحولت الى ثورة بتلاقيها مع طموحات وتطلعات الشعب المصري, ثم امتد اثرها للشعوب العربية والافريقية والهمت بفكرها المناضلين في اسيا وامريكا اللاتينية. ولن نتعرض بالتفصيل لما بين هذه الثورات الثلاث من فوارق واختلافات, ولكن يهمنا ان الثورات الثلاث تفاعلت في لحظة ما من لحظات التاريخ وادى هذا لتشكيل واضح في فكر ومنهج وسلوك ثورة 23 يوليو 1952 ولقد جاء اول لقاء فعلي وهام بين ثورة 1952 والثورة الصينية في باندونج عندما التقى الزعيم جمال عبدالناصر قائد الثورة مع الزعيم شوان لاي رئىس وزراء الصين والرجل الثاني الذي ظل متربعا على عرش الوزارة الصينية حتى وفاته في منتصف السبعينات واصبح هذا اللقاء نقطة تحول تاريخية في ثلاثة جوانب: الاول: اعتراف مصر الثورة بالصين الشعبية, وفتح هذا الاعتراف الطريق للدول العربية والافريقية وادى الى كسر الحصار الغربي الذي كانت القوى الاستعمارية تعمل على فرضه على الصين. وهذا الاعتراف في ذلك اللقاء تم تتويجه رسميا باقامة علاقات دبلوماسية في ايار 1956 . اما الجانب الثاني: فهو مساعي شوان لاي لتقديم مصر وعبدالناصر للقادة السوفيت وهي في حقيقتها صفقة اسلحة سوفيتية وادى ذلك الى كسر احتكار السلاح وحصاره الذي فرضه الغرب على مصر والعالم العربي والى خروج روسيا السوفيتية الى مواجهة الغرب في موقع هام من مواقع نفوذه. اما الجانب الثالث: فهو انشاء حركة التضامن الافرواسيوي التي لعبت دورا في ربط القوى الشعبية في هاتين القارتين ببعضها من ناحية كما لعبت دورا في مقاومة الاستعمار من ناحية ثانية, وساعدت في بلورة حركة عدم الانحياز من ناحية ثالثة. ولهذا كله فلا عجب ان لقاء الثورتين المصرية والصينية كان لقاء تاريخيا أثر في مسيرة العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين, ولهذا وقفت الصين مع مصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956 الذي كان اول حدث عدواني خطير بعد اعتراف مصر بالصين الشعبية واقامة العلاقات الدبلوماسية معها وايدت الصين القرار المصري بتأميم قناة السويس ونددت بالعدوان الثلاثي وبالحصار الاقتصادي والمقاطعة للقطن المصري واعلن شوان لاي كلمته الشهيرة »ان لو زاد كل صيني سنتيمترا واحدا في ملابسه فانه يمكن شراء القطن المصري باكمله« وابدت الصين استعدادها لارسال متطوعين. وفي حرب 1973 اكدت الصين مجددا مساندتها لمصر, والاكثر بروزا ان الصين ساندت الموقف المصري من عملية السلام بخلاف موقف الاتحاد السوفيتي انذاك ولن نعرض لتاريخ علاقات مصر بالصين وانما نركز فقط على ملامح التلاقي بين الثورتين المصرية والصينية, وتأتي هذه الملامح في عدد من المظاهر: الاول: استمرارية الثورتين حتى الان بمعنى انه رغم اختفاء الرعيل الاول من الثوار في مصر او الصين فان الاجيال اللاحقة اعتبرت ان شرعيتها مستمدة من الثورة الاولى وانها استمرار لهذه الثورة ولذلك احتفلت الصين احتفالا مهيبا عام 1999 بمرور خمسين عاما على نجاح ثورتها. الثاني: ان الثورتين المصرية والصينية تكادان تتشابهان في مسيرتهما فاربعة اجيال تتابعت على القيادة من محمد نجيب وجمال عبدالناصر وانور السادات وحسني مبارك, وفي الصين ماوتس تونج وشوان لاي ودنج سياوبنج وجيانج زيمين, بالطبع هناك شخصيات اخرى برزت على الساحتين المصرية والصينية لها احترامها ووزنها ولكنها لم ترق لمكانة هؤلاء القادة. الثالث: ان الجيلين الثالث والرابع لقيادة الدولتين تميز بالواقعية اي انه سعى لتحويل ثورة الدولة الى دولة الثورة, وسعى لبناء قاعدة اقتصادية وانتهج سياسة الانفتاح الاقتصادي وسمح بمزيد من الحريات السياسية والانفتاح على العالم الخارجي, وانتهاج سياسة دولية تأخذ في الحسبان المزج ما بين المبادىء والمصالح ولهذا سعت مصر السادات ومبارك لتحقيق السلام الشامل في الشرق الاوسط كما استطاعت الصين في عهد دنج سياوبنج وجيانج زيمين ان تطور علاقاتها الودية مع دول شرق وجنوب شرق اسيا وبرز دور القوة العظمى المهيمنة في السياسة الدولية بالنسبة للسلوك الواقعي المصري والصيني فهو يرتبط بعلاقات طيبة مع هذه القوة العظمى ولكنه يحافظ على مساحة من الاختلاف والاتفاق في حالة تعارض وجهات النظر. الرابع: ان القيادة المصرية والصينية في الجيلين الثالث والرابع سعت لتطوير العلاقات بين البلدين بشكل غير مسبوق ولهذا زار الرئيس مبارك الصين 8 مرات, وزار الرئيس جيانج زيمين مصر مرتين وتبلور هذا الالتقاء الهام بين القيادتين في توقيع الرئيسين حسني مبارك وجيانج زيمين عام 1999 على اتفاقية اقامة علاقات استراتيجية بين البلدين موجهة للقرن الحادي والعشرين.. وهي علاقة ذات طبيعة خاصة لانها تستهدف السلام والتعاون والبناء الاقتصادي, وليست موجهة ضد احد. ------ صحيفة العرب اليوم الاردنية في 2 -8 -2005