نظرة فاحصة الى العالم العربي في هذه المرحلة من التغني بشعارات «الاصلاح» تكشف، بما لا يدع مجالاً للشك، أن معظم الطبقة السياسية الحاكمة في هذا العالم لا يفعل الا أن يجهد لإظهار نفسه في صورة «المتجاوب» مع الحديث الأميركي عن «الاصلاح» من دون النظر الى أي شيء آخر، وبالذات الى حاجات المنطقة وشعوبها للاصلاح. مشروع الادارة الأميركية عن «الشرق الأوسط الكبير» هو ما في ذهن النظام العربي الحاكم، خصوصاً وقد اقترن بتلميحات تارة وبحديث علني تارة أخرى عن «تغيير الأنظمة»، لكن تعامل هذا النظام معه ينطلق من نقطة واحدة فقط هي البعد الاستراتيجي الأميركي للمشروع. ومحصلة لعبة «التجاوب»، كما تراها الأنظمة، هي في النهاية إبقاء كل شيء على حاله، لا اصلاح سياسياً ولا ديموقراطية ولا شفافية ولا حريات عامة ولا تداول للسلطة، في مقابل «بيع» واشنطن ما تهدف اليه من مشروعها أساساً: «أمركة» المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً... وحتى ثقافياً! ولحظت الطبقة السياسية العربية، منذ اللحظة الأولى لطرح مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، أن واشنطن لم تخفِ أن من أولى غاياتها سيادة «السلام» الأميركي PAX AMERICANA - وليس سراً هنا أنه هو «السلام» الاسرائيلي ذاته – سواء تبنته أنظمة الحكم العربية علناً أم لم تتبنه. وعلى خلفية المفهوم الأميركي عن «الارهاب»، والمقولة العربية التي تجاهلت عمداً كل الأسباب الداخلية لبروز الحركات الأصولية الاسلامية، أدركت هذه الطبقة أن بإمكانها عبور المرحلة بنجاح كامل، أو نسبي، اذا قدمت في الأولى («السلام» الأميركي في المنطقة) ما يعفيها من تقديم شيء كثير أو قليل في الثانية. وهكذا لا حديث عربياً عن «الارهاب» الآن الا الحديث الأميركي اياه، من دون حتى محاولة التمييز بينه وبين المقاومة كما كان الأمر في مرحلة سابقة ، تماماً كما لا حديث عربياً عن الصراع العربي – الاسرائيلي الا الحديث الأميركي حتى بمفرداته الانكليزية من «فض الاشتباك «الى «اعادة الانتشار «الى «تبادل الثقة» الى «خريطة الطريق» الخ... لا «صراع وجود» ولا حتى «صراع حدود» بعد، بل مجرد «نزاع» عربي – اسرائيلي وحول ماذا ؟! اذا جرى التدقيق في التعابير والمعاني، حول شكل هذا «السلام» الأميركي فقط لا غير!! الآن، بعد حوالى عامين على مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وبعد أن اتسع إطار الهموم الاميركية في المنطقة ليشمل العراق وأفغانستان فضلاً عن سورية وايران، وجد النظام العربي أن في إمكانه توسيع اطار «البازار» وتالياً المساومات. فبضاعة «السوق» متنوعة ومتعددة فضلاً عن أنها حمالة أوجه، كما هو حال «الارهاب» بمفهومه الأميركي – والدولي بعد توسعه ليشمل دولاً في الغرب والشرق على حد سواء –، وإذاً يصبح مجال المزايدات، وليس المساومات فقط، واسعاً الى الحد الذي يمكن تلمسه بسهولة في المشهد العربي الراهن. فماذا نرى عملياً الآن في العالم العربي، وفي امتداداته في العالم الاسلامي؟! تشهد مصر، على سبيل المثال، إذا استثنينا الموقف الشعبي العام وفيلم عادل امام الجديد «سفارة في العمارة» وبعض المقالات في صحف المعارضة، حركة «بيع وشراء «على صعيد القضايا الكبرى لم يسبق لها مثيل منذ اتفاق كامب ديفيد قبل زهاء 30 عاماً. إطلاق الجاسوس الاسرائيلي المحكوم عليه عزام عزام كان البداية، ثم جاء اتفاق «الكويز» للتصنيع المشترك مع اسرائيل والولاياتالمتحدة الذي كانت القاهرة رفضته لسنوات عدة، ثم أخيراً نشر قوات الامن المصرية في رقح وعلى معبر فيلادلفيا بين سيناء وغزة. «بازار» في ذروة نشاطه، بدليل أنه بينما كان عزام عزام يخرج من السجن المصري كانت واشنطن ترفض طلباً من جاسوس اسرائيلي آخر هو جوناثان بولارد بمجرد تخفيض عقوبة السجن المؤبد المحكوم بها في الولاياتالمتحدة. الدليل الآخر هو أن الاصلاح السياسي الذي تطالب به المعارضة المصرية لا يزال يراوح مكانه حتى في ما يتعلق بالمادة في الدستور التي تنص على «اختيار الرئيس عبر الاستفتاء»، اذ تم تعديل المادة ب «استفتاء»على التعديل وتم التصديق على نتيجة الاستفتاء على رغم مقاطعة الأحزاب وقطاعات شعبية واسعة للعملية. لقد تساءل الكاتب الأميركي جاكسون ديل، في صحيفة «كريستشيان ساينس مونيتور» أخيراً، عن رد فعل الرئيس جورج دبليو بوش على احالة المعارض المصري أيمن نور الى المحكمة بتهمة تزوير أوراق للحصول على ترخيص لحزبه. لم يرد بوش طبعاً، ولا أثار أحد في واشنطن قضية أيمن نور هذه، ولا مسألة أن محاكمته أرجئت الى ما بعد الانتخابات الرئاسية المصرية على رغم أن نور كان أعلن ترشيح نفسه إلى المنصب في مواجهة الرئيس حسني مبارك. في غالبية الدول العربية التي تتغنى منذ مدة بالعمل على إرساء الحريات المدنية وبالاصلاح السياسي والاقتصادي، من الاردن الى اليمن الى تونس الى الجزائر الى المغرب فضلا عن فلسطين والعراق والسودان وليبيا، لا يختلف الأمر كثيراً عما هو في مصر. الاستعدادات على قدم وساق لتقديم ما يلزم على مذبح «السلام «الأميركي في المنطقة، بل ولتجريد الشعب الفلسطيني ومقاومته مما بقي لديهما من قدرة على الصمود، أو على مجرد الممانعة بحسب التعبير المنحوت أخيراً، في وجه هذا المخطط الأميركي – الاسرائيلي. واذا كان لا بد من أمثلة على هذه الاستعدادات، فإعلان الاردن مشاركته إسرائيل مشروع ما يسمى ب «قناة البحرين» واحد منها، وزيارة وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم الى المغرب مثال ثان، وتبادل الوفود الاقتصادية والشعبية والثقافية بين تونس واسرائيل مثال ثالث، وعرض ليبيا رغبتها في دفع تعويضات الى اليهود الليبيين الذين هاجروا منها الى الأراضي المحتلة بعد العام 1948 مثال رابع، والقائمة تطول. على الضفة الأخرى، بدأ فجأة في الفترة الأخيرة، وبشكل جماعي لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث، «هجوم» عربي موحد على العاصمة العراقية بغداد لفتح سفارات فيها وإيفاد سفراء وأجهزة ديبلوماسية كاملة على رغم الأوضاع الأمنية المتردية في العراق وعمليات الخطف والقتل التي يتعرض لها الديبلوماسيون هناك. لماذا هذا «الهجوم»، ومن أمر به، ولماذا «التجاوب» الجماعي معه؟! ألا يتم ذلك في السياق ذاته، من النظام العربي، وفي «البازار» ذاته، مع متطلبات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة؟! وألا تفسر ذلك «صمت» الادارة الأميركية على تعثر، ان لم يكن عرقلة العملية السياسية التي كتبت قصائد غزل أميركية وعربية بها في ما مضى؟! وألا يتساوق ذلك مع ما كتبته مارينا أوتاواي، كبيرة الباحثين في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، في الأسبوع الماضي وقالت فيه: «ان التوترات التي تخلقها المصالح الأميركية والالتزامات المتبادلة تؤدي الى محصلات سياسية لا تساعد دائماً على الترويج للديموقراطية»؟! باختصار شديد، لقد اكتشف النظام العربي مفتاح «البازار» الأميركي المفتوح مجدداًَ في هذه المرحلة، بعد «البازار» السابق لبيع الديموقراطية في مقابل مناهضة الشيوعية، وهو يعمل الآن بكل قوة، وبكل نجاح كما يبدو واضحاً، على حماية نفسه تحت شعار حماية الغرب – والولاياتالمتحدة أساساً – من خطر «الارهاب». ---- صحيفة الحياة اللندنية في 3 -8 -2005