ظهر مع استفتاء 19 مارس 2011 ما تعارف على تسميته بالاستقطاب, فقد أراد فريق معتبر من المصريين أن يأتى (الدستور أولاً) وفريق آخر أراد (الانتخابات أولاً) ثم زاد هذا الاستقطاب مع توزيع حصص مقاعد مجلسى الشعب والشورى على مكونات التحالف الديمقراطى الذى قاده الإخوان, كما زادت بعض الأحداث فى الميادين من حدة هذا الاستقطاب مع تعدد الرؤى والمواقف, وبدت الاتهامات تكون أكثر حدة.. كانت هذه مكونات المشهد السياسي, وبدا الموقف لقادة الجيش الذين يديرون المشهد أكثر تعقيدًا لأنه يتعامل وفق مصالحه من ناحية ووفق مراعاة مكونات المشهد السياسى شديدة الاختلاف وشديدة التنوع من جهة أخرى. عبث فى عبث .. لقد أراد بعض السياسيين استمرار المؤسسة العسكرية فى الحكم والغريب أنهم من دعاة مدنية الدولة (سامح عاشور وأسامة الغزالى حرب مثالاً لا حصرًا) تفاديًا لانفراد الإسلاميين بصدارة المشهد, ومن ثم كشف المشهد عن إيمان بعض السياسيين بالديمقراطية التى تأتى بهم فقط!! بينما أراد الإسلاميون وغيرهم من بعض الوطنيين إخراج الجيش من المشهد السياسى فكان اعتراضهم على وثيقة الجمل ثم وثيقة السلمى وخرجوا فى مظاهرات عارمة فسقطت وثيقة الجمل وسقطت وثيقة السلمى.. ومضت الأحداث وفاز د. مرسى بمنصب الرئاسة فى أول انتخابات حقيقية تشهدها مصر وأصبح رئيسًا شرعيًا للبلاد, لكن الرئيس حاز على منصبه بأغلبية تشابه الأغلبية التى يحصل عليها الرؤساء فى الدول العريقة فى ممارستها للديمقراطية والمستقرة وذات المؤسسات الراسخة, ومن ثم فإن ما يسرى فى بلاد أخرى قد لا يصلح بالضرورة لإدارة المشهد السياسى فى مصر, وخاصة أن الوطن يعيش أجواء ثورة والدولة تُعيد بناء مؤسساتها والشارع فى حركة كبيرة وسيولة هائلة.. إدارة جديدة للجيش لقد أدرك قادة المؤسسة العسكرية أن جيش مصر وقع فى مستنقع المشهد السياسى الذى يغيب الرشد عن أغلب مكوناته, وبدا لهم أن هتافات المصريين (يسقط حكم العسكر) لا تُنذر بخير, وبدا لهم أن مشاهد اشتباك المصريين مع جيشهم فى الشوارع ليست فى صالح المؤسسة, وهنا بدت حكمة المؤسسة العريقة فى الرجوع إلى الخلف بعيدًا عن صدارة المشهد السياسى حفاظًا على مصالح المؤسسة العريقة, وبدا لهم أن وجود قيادة شرعية للبلاد تحسم الأمر, فكان توقيع الرئيس على قرارات 12/8 بعزل طنطاوى وعنان وتحققت مصلحة المؤسسة واستفاد الطرفان.. أجواء صياغة الدستور لقد تشكلت الجمعية التأسيسية الأولى والثانية فى ظل مناخ الاستقطاب (إن صح التعبير) ومضت اللجنة الثانية فى أعمالها, ومن ناحية أخرى أقال الرئيس النائب العام فثار عليه السياسيون ونادى القضاة بزعم أن القرار مخالف للقانون, بينما طالب بعض السياسيين رئيس الجمهورية بحل الجمعية التأسيسية وإعادة تشكيلها ولا أحسبهم يجهلون أن هذا المطلب مخالف أيضًا للقانون.. وكم هو مظلوم القانون حين يتلاعب به كثير من الأطراف وهم يزعمون أنهم من حُماته!! مشروع الدستور خرج مشروع الدستور وقد قال فيه المؤيدون إنه أفضل دستور تشهده مصر, بينما قال الرافضون إنه أسوأ دستور, والحقيقة تكاد تتأرجح بين الموقفين.. فالدستور الذى تضمن أكثر من 230 مادة به مواد عظيمة جدًا, وفيه مواد مختلف عليها, ويبقى أهم مواد الخلاف ما جاء بشأن المؤسسة العسكرية حيث حصلت المؤسسة العسكرية على أكثر مما كان فى وثيقة السلمى التى رفضتها القوى الإسلامية!. كيف حدث ذلك؟ مع وجود الاستقطاب الحاد فى المجتمع نظرت أطراف كثيرة إلى (المؤسسة العسكرية) تترقب موقفها بل وتستدعيها إلى المشهد السياسى مرة أخرى ( كما حدث من البرادعى وغيره!!) ورأت القوى الإسلامية أن المسار الحالى لن يكتمل إلا بعدم استدراج العسكر إلى واجهة المشهد السياسى مرة أخرى, وأدركت المؤسسة العسكرية صعوبة العودة مرة أخرى إلى الاشتباك مع المواطنين فى ميدان العمل العام, وهى لا تريد إلا مصالحها, وها هى مصالحها وقد تحققت, وما تحققت مصالحها إلا فى ظل غباء كثير من القوى السياسية, حين استقوى بها طرف فأرضاها, واستدعاها طرف آخر إلى مشهد لا تريده, لكنها استطاعت توظيف المشهد لصالحها بذكاء فاق كل الأطراف, فالمعارضة غير الرشيدة لم تستطع نسيان مصالحها الحزبية فلم تساند الحكم الحالى ولم تقف معه صفًا واحدًا لتحقيق مدنية الدولة بشكل كامل مما دفعته للارتماء فى أحضان المؤسسة ليضمن حيادها فى المشهد الحزبى التنافسي.. والحكم لم يستطع أن يحقق التوافق المعتبر ليواجه به (مدنيًا) قوة المؤسسة فيجعلها فى المكان العظيم اللائق بها دون زيادة.. ومن ثم خسر الجميع .. وتأجلت عملية إتمام مدنية الدولة الى إشعار آخر.. وأحسب أن الرابح هو المؤسسة العسكرية التى استطاعت تحقيق مصالحها حين استفادت من الصراع الحزبى أفضل استفادة, وكأن لسان حالها يقول (بمنطق معتبر ووجيه): كيف أترك مصالحى تتردد بين ساسة هواة ومصالح حزبية متأرجحة بهذا الشكل؟ فكان ما كان.. [email protected]