يقع الإنسان في مجموعة من الظنون الخاطئة المتكررة ,ومنها: ظنه أنه مستمر ودائم وأن عمله وفكرته ومشروعه هو الباقي رغم تغيرات الزمان , وتتضخم هذه الحالة عند الإنسان عندما يرى عوامل النجاح ويشاهد ثمار الأعمال وهي زاهية بهية والناس معجبون بها, ولها تأثير كبير فيهم.لقد ذكر الله هذه الحالة النفسية الإنسانية في قصة صاحب الجنتين ذات الأعناب والنخل والزرع فقد دخلها وهو مستصحب هذا الظن فقال ( ماأظن أن تبيد هذه أبداً ) ومثل هذا المنطق وقع فيه فلاسفة وعلماء ومربون وخبراء وساسة ومفكرون ودعاة.لقد اعتقد الماركسيون أن الماركسية حل دائم لكل مشاكل البشرية، وظن الاشتراكيون مثل ذلك , واليوم نرى دعاة الليبرالية يرونها نهاية التاريخ وخلاصة التجارب الإنسانية , وحتى الذين يردون نظرية نهاية التاريخ من الليبراليين يقولون بأن الليبرالية تمتلك القدرة على الإستمرار وقيادة البشرية وذلك لما تتمتع به - حسب اعتقادهم - من نسبية مطلقة , تجعلها تتعامل مع الوقائع والمصالح بمرونة بالغة، ناسين أنهم وأن فكرتهم ليسوا سوى مرحلة من مراحل الفكر المادي المتصف بقصر العمر أصلا.ويقع بعض دعاة الإسلام ومثقفيه وعلمائه في الظن ذاته, لا من جهة أن الإسلام حق دائم وحقيقة مستمرة , فهذا لا يجادل فيه من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, ولكن من جهة مايستنبطه علماء الإسلام ومجددوه من فقه معين أو طرائق ومناهج تربوية أو دعوية, فيظن الأتباع المقتنعون والمعجبون أن المذهب الفلاني مستمر ودائم . وكل شيء ينتقص من استمراريته وانتشاره فهو عبارة عن إعلان حرب , والناظر في كتب بعض المذاهب الفقهية يجد إلى أي حد بلغ بهم الغلو واعتقاد الأبدية في إمامهم ومنهجهم.قل مثل ذلك عن الدعوات التجديدية التي جاءت وفق شروط مرحلة زمنية معينة فيأتي المحبون لذلك المنهج الدعوي فيصرون على أنه هو الصالح لكل زمان ومكان وأنه هو وحده منقذ الأمة الإسلامية , وما عداه فهراء وعبث.لماذا لا نرى الأمور بطريقة مختلفة، متوسطة بين طريقة أهل النسف وأهل الإنكفاء، ونعتبر أن المراحل الزمنية والحقب والمجايلة كلها حقائق يجب التعامل معها , فقد كانت النبوة مرحلة تأسيس وتأصيل ، ثم كانت الخلافة الراشدة مرحلة، ثم بني أمية وهكذا وكانت كل مرحلة لها مميزاتها وشروطها وأحوالها الخاصة بها. وتلك الأيام يداولها الله بين الناس, الذين ينطبق فيهم قول القائل الناس أشبه بزمانهم من الماء بالماء, فليس كل واحد منا سوى مرحلة , العاقل من يبذرها بخير ورشد ليحصدها من بعدنا.إن الخلل في هذا الميدان يأتي من مقولتين الأولى تردد لم يترك الأول للآخر شيئا، والثانية تنادي بنسف الماضي وتخطي.والصواب يقع في قمة بين منحدرين منحدر الجامدين المتيبسين، ومنحدر المائعين المترهلين ،وكم ترك الأول للآخر، وكم في مراحل الماضي من كنوز،وكم في الواقع من مناجم. ( عن صحيفة الرسالة )