لسنا طلاب انقلابات, ولا نحن ممن يتوقون إلى رؤية الدبابات تجوب شوارع القاهرة, وأظن أن مصر كلها عن بكرة أبيها لا تريد أكثر من التغيير, وترفض الانقلابات سواء جاءت من داخل القصر أو من خارجه، كل ما تريده مصر أن ترى طريقها إلى المستقبل بوضوح لا لبس فيه، ولا هزات وخضات توقف نمو القوى الديمقراطية في البلاد. ونحن لا نطلب أكثر مما أحرزه انقلاب موريتانيا من نتائج لو صحت فسوف تضعها فى مقدمة الصف العربي المتجه إلى الديمقراطية. هنا وهناك رئيس قضى أكثر من عشرين عاما في الحكم، ولم يكن مهما كيف جاءا إلى الحكم، ولكن يبقى الأهم هو: كيف يتركا الحكم؟ هناك تلكأ الرئيس في الإجابة على سؤال كيف يمشى من الحكم، فانقلب عليه نظامه، وأطاح به المسئولون عن أمنه وحماية نظامه!. وهنا السؤال معلق في سماء مصر منذ زمن نحسبه طال أكثر مما يجب, ولا أحد، ولا الرئيس نفسه، يتوقع أن يرشح نفسه لأكثر من الدورة القادمة، فهذه آخر ما يمكنه من دورات رئاسية،سواء اكتملت مدته الرئاسية المقبلة أم آثر أن يستريح بعدما يشاء له الله أن يقضى منها في موقع الرئاسة، سيبقى السؤال معلقا فوق رؤوس الجميع وأولهم رأس الرئيس عن الكيفية التي يترك بها الحكم؟. ولاشك أن الرئيس يعرف كما يعرف الناس كلهم أن لكل تلكؤ أمام أبواب المستقبل نهاية، وإن لم يفتح الذين بأيديهم المفاتيح منافذ طبيعية للتغيير الذي طال انتظار الناس له، فهم سواء أدركوا أو لم يدركوا يفتحون على البلد أبوابا ليست تؤدى إلا إلى المجهول الغامض والمخيف!. درس انقلاب موريتانيا ماثل الآن للعيان أنه إذا تأخر أو تعذر التغيير بالوسائل السلمية، فإنه يأتي بغيرها، وإذا تحول انتقال السلطة عبر صناديق الاقتراع إلى عملية مستحيلة، فسيتحول مطلب التغيير إلى طرق أخرى، ربما خطرة، والمؤكد أنها غير مأمونة العواقب!. طفح كيل الشعب هنا وهناك، وبلغ الظلم مبلغه، واستشرى الفساد بمعدلات غير مسبوقة، وتأخر نمو الديمقراطية، وأصبحت تكلفة استمرار النظام بدون تغيير حقيقي هنا وهناك باهظة على الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية!. الدرس في موريتانيا واضح كالشمس أن الرئيس المخلوع بات بالنسبة إلى المعارضة كما لمؤيديه عبئا ثقيلا بعدما أصبح بقاؤه في الحكم ضارا بجميع الأطراف، ولم يعد الرئيس يوحى بالثقة، لا من الأطراف النافذة في نظامه، ولا من الأطراف الخارجية المؤثرة في البلد، ولم تفلح وعوده الإصلاحية المؤجلة إلى آجال غير مسماة في أن تحفظ عليه نظامه!. اعتمد الرئيس المخلوع طويلا على أن رضا أمريكا من رضا إسرائيل وأن رضاء هما كفيل بحماية نظامه واستمراره فوق كرسيه، وها هي الوقائع تثبت أن الديكتاتورية ليس لها إلا نهاية واحدة!. ولا شك أن انقلاب موريتانيا أعاد إلى الأذهان من جديد أن هناك طريقة أخرى للتغيير فى بلاد العرب غير التغيير بيد عزرائيل، والوقائع تثبت أن الرئيس المخلوع هو المسئول الأول والأخير عن الانقلاب بعد أن جعل عملية التغيير بالوسائل السلمية مستحيلة. وأثبتت الوقائع التي لا تكذب أنه لا يمكن استمرار حالة اختطاف السلطة إلى ما لا نهاية، وأن رياح التغيير على طريق الإصلاح يمكن أن تبدأ من بلد آخر غير مصر بعد أن دخلت عصرها الحجري وما تزال تكافح للخروج منه!. مصر لا تريد انقلابا، ولكنها تتطلع إلى التغيير، التغيير وليس التوريث، التغيير الحقيقي، وليس التغيير على طريقة ما حدث في المادة 76 من الدستور! مصر تريد التغيير الآن، ولا تريد التغيير المؤجل، مصر لم تعد تطيق انتظارا جديدا، كل ما تريده مصر أن تفتح أبواب التغيير، ولن تفلح المسرحية الهزلية المسماة بالانتخابات الرئاسية فى تصريف الاحتقان الذي تعانى منه البلد! ودرس موريتانيا يؤكد أن كل إجراء خطأ وكل سياسة خطأ وكل تأجيل للإصلاح يضيف رصيدا جديدا في حساب الاحتقان، الذي لا حل له غير الإصلاح نفسه! ويثبت الانقلابيون في موريتانيا أن برنامج التغيير واحد فى الوطن العربي كله، وعنوانه الوحيد هو الديمقراطية، فالتزموا بتعديل الدستور لإقامة نظام تعددي يحدد مدة الرئاسة بخمس سنوات ويقيد مرات الرئاسة بدورتين لا ثالث لهما، والتزموا بإدخال تعديل دستوري يمنع قيام أي رئيس مقبل بتعديل فترة الولاية الرئاسية أو إمكان تجديدها!. التزم انقلابيو موريتانيا بإجراء انتخابات تشريعية رئاسية مباشرة بعد الاستفتاء وقبل مهلة السنتين، والتزموا وهذا هو الأهم بعدم ترشح أي عضو بالمجلس العسكري في الانتخابات العامة المقبلة والأمر نفسه بالنسبة إلى رئيس الحكومة الانتقالية الذين اختاروه من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والبعد عن الفساد!. وماذا تريد مصر أكثر من هذا؟ -------------------------------------- جريدة العربي الناصري