تمر مصر الآن بمرحلة أتصور أنها الأخيرة والأخطر فى مرحلة الوصول إلى (الدولة والدستور).. أنجزنا فى المطلب الأول نسبة كبيرة وبقدر من الصعوبة.. وما زلنا نراوح مواضعنا فى المطلب الثانى.. بالقرارات الهامة التى أصدرها الرئيس فى 22/11 الماضى نكون قد قطعنا شوطاً هاماً فى مسألة استقرار (الدولة) وتحقيق هيبتها.. وهو ما سيتبعه إن شاء الله استقرار (المجتمع).. استقرار الدولة والمجتمع على نحو صحيح شرط من أهم شروط التقدم والإصلاح.. وهو ما يعيه الرئيس جيداً وتعيه أيضاً جذور الدولة العميقة من جهة والأطراف الرافضة لفكرة (الإصلاح الإسلامى) من جهة أخرى.. ورغم الوضوح التاريخى لاستحالة قيام تقدم ونهوض للشرق فى غياب (الفكرة الدينية) كما يقول مالك بن نبى فى (ميلاد مجتمع).. وكما تدل كل القراءات التاريخية للحضارات الشرقية.. وكما يذكر الكاتب الإيرلندى ماليز روتفن فى كتاب (الأصولية والبحث عن المضمون)، الذى يقول (إننا إذا أردنا البحث عن حل سلمى لأمراض العالم فإنه من الجوهرى أن نعى دور الدين..). ويعيب على فكرة القومية العربية استبعادها للدين من تشكيل الأمة، (فاستبعدت بذلك كل دور بناء له فى البناء الثقافى والفكرى والنفسى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى للفرد والمجتمع وأورث ذلك عجزاً عند التيار القومى فى طرح مشكلات لحلول الأمة ودفعه إلى نقل حلول من الغرب وهو ما يفسر تحول عدد كبير من القوميين العرب إلى الفكر الماركسى). وهو أيضاً ما فهمته الشعوب بفطرتها.. بعد سنين الاستبداد التى خاصمت الدين فى شخص التيارات الإسلامية واضطهادها.. فكان أن أتت الشعوب بهم فى سدة الحكم.. ورغم أن الأمر لم يتم على صورته المثلى كما كان يرجو العقلاء خاصة فى اتجاه المشاركة الواسعة وترتيب الخطوات على نحو متدرج، إلا أن واقع الحال يقول إننا الآن أمام دولة تتشكل.. ودستور يكتب.. ومجتمع يتطلع بكل اللهفة إلى الاستقرار والتنمية.. ولا يملك أى مصرى يحمل فى قلبه خفقات الحب والولاء لوطنه وشعبه إلا دعم الخطوات التى تصل بنا إلى (الدولة والدستور).. البوابة الكبرى للنهوض والإصلاح. نحن الآن أمام موقف مريب من أطراف كثيرة تهدف إلى هدم الدولة وتعطيل الدستور.. وهى الأطراف التى لم تستوعب إلى الآن وجود الإسلاميين فى الحكم.. وانتقالهم من موضع الضحية التاريخى إلى موضع السلطة والنفوذ.. ورغم أن الثورة التى أتت بهم قد شارك فيها الجميع بقدر أو بآخر، إلا أن واقع الحال يقول إنهم هم من كفل لها الاستمرار حتى سقوط النظام.. وهم من كانت لهم القوة النفسية لمقاومة النظام طيلة سنوات الاستبداد.. ليس هذا وحسب، بل حافظوا على أنفسهم وتماسكهم التنظيمى بصبر جميل.. إلى أن كانت الانتخابات والتى ما كان ليكون غيرها لإتمام مرحلة ما بعد الثورة. فكانوا هم الجهة الوحيدة فى المجتمع التى تمتلك كتلة تنظيمية ضخمة ورصيداً جماهيرياً كبيراً من الصبر على السجون والتقانى فى العمل الاجتماعى.. ففازوا فى الانتخابات كلها.. وبدا للجميع أنهم هم من التقط ثمرة الثورة.. وأخرجت تلك النتيجة من نفوس بعض النخب قدراً كبيراً من الكراهية المخزونة عبر التاريخ لهذا التيار.. وهى كراهية تراوحت بين حالة نفور من قصة الدين وتعاليمه إلى حالة غيظ فكرى وأيديولوجى.. وانصب ذلك كله على الوطن فى غمامة الحقد والصراع.. لم يستطع هؤلاء المساكين أن يسمو بأنفسهم وبانتمائهم الوطنى على تلك الحالة المقيتة، وفى نهاية الأمر، يبقى المستقبل أمامنا مفتوحاً على كل الاختيارات ويبقى صندوق الانتخابات هو معيار الحقيقة. فى أربعينيات القرن الماضى، استطاع الأستاذ البنا أن ينفذ إلى قلوب العامة بالبساطة والوضوح.. واستطاع أن يكون زعيماً يتبعه مليون رجل، كما قال الراحل إحسان عبد القدوس فى مقالته الشهيرة ب"روزاليوسف": هذا (الرجل يتبعه مليون رجل).. على الجانب الآخر كان هناك عدد كبير من المفكرين الإسلاميين لا يقلون عنه حباً وغيرة لدينهم وأنتجوا للفكر الإسلامى ذخائر الإصدارات، فرأينا أحمد أمين صاحب الدراسات الإسلامية العميقة، ورأينا السنهورى صاحب (الخلافة الإسلامية)، و(مصادر الحق فى الفقه الإسلامى)، ورأينا العقاد صاحب العبقريات و(الفلسفة القرآنية)، و(الإنسان فى القرآن الكريم)، و(حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، وغيرها من روائع الإسلاميات.. ومحمود شاكر صاحب التحقيقات المهولة لعيون التراث. كان البنا يحمل عقل السياسى وقلب الولى، كما وصفه الشيخ على طنطاوى _ رحمهما الله _ فما كان منه إلا أن استشعر الخوف على هذه الحركة الكبيرة فذهب إلى أهل الفكر يدعوهم إلى تحمل المسئولية معه وخاطبهم فى ذلك شخصاً شخصاً.. إلا أنهم وقفوا منه موقف الرفض والصدود.. وعلى الرغم من قبول العقاد لدعوة الأستاذ البنا بكتابة مقال فى مجلة الشهاب التى كان يصدرها الإخوان، إلا أنه تراجع، إذ فجأة وقلب موقفه إلى الهجوم المباشر على البنا والإخوان.. لم يكن هذا الصدود منهم إلا حقداً على الرجل من تنظيمه الجماهيرى العريض.. ولو قدر للحركة الإسلامية وقتها أن تتفاعل _ كما كان يرجو البنا _ مع هؤلاء الفطاحل فى التجديد الفكرى والفقهى لاستفادت عمقاً كبيراً كان قد عصم مصر من كثير من الأخطاء والأخطار. ورغم ذلك كان البنا ينصح شباب الإخوان بالذهاب إلى صالونات هؤلاء المفكرين وزيارتهم للاستزادة من فكرهم وعلمهم.. إلا أن ذلك لم يغن عن وجودهم داخل هذا الكيان الكبير كقيادات رائدة له فى المجالات التربوية والفكرية. لم يكن هذا الموقف إلا موقفاً نفسياً بامتياز.. وهو ما نرى شبيهاً له هذه الأيام فى مرحلة من أهم المراحل التاريخية التى يمر بها الوطن.. التفسير النفسى للتاريخ له تطبيقات كثيرة وعديدة فى حياة الأمم.. لكن أن يصل إلى حد تهديد الوطن بأسره وإحراقه على أهله وناسه فهو ما لا سابقة له فى التاريخ.. الأمر يتجاوز قرارات قد تصيب وقد تخطئ وأمامنا المدى المتطاول نصحح فيه ما بدا لنا خطأ.. أو شبيهاً بالخطأ.. مع الحرص التام على صون الدولة وهيبتها.. من كان منا لا يرى النائب العام فى صورته الحقيقية كخادم للسلطة البائدة استخدم نفسه واستَخدم ما شاء له الاستخدام فى مطاوعة الفساد والمفسدين.. وحمايتهم والتستر عليهم. من كان منا لا يرى فى تيار غير قليل داخل القضاء المصرى العظيم تم اختراقه وتطويعه.. وأن أوان إصلاحه ورده إلى مكانه الصحيح. ورأينا فى تركيا كيف كان القضاء الذراع الطويلة للعسكر فى الفساد والاستبداد. من منا لا يتمنى وجود مؤسسة منتخبة من الشعب فى هذه المرحلة تمارس دورها _على ضعفه وقلته_ إلى جانب باقى المؤسسات.. وأقصد مجلس الشورى. من منا لا يتمنى إتمام التأسيسية _على ما بها_ لمشروع الدستور وإصداره وفى النهاية هو ليس كتاباً مقدساً لا يجوز المساس بنصوصه نعدل فيه وفق ما يتراءى لنا من تقدير. إلى جانب ذلك، قد تكون باقى القوانين المتعلقة بتحصين قرارات الرئيس مما يستدعى مراجعته ومناقشته.. ألا نستطيع تجاوز أحقادنا وحساباتنا لندخل فى (كتلة تاريخية) تصنع لنا وطناً عظيماً.. وتحمى الاختلاف فى صلب الوحدة والتماسك. أليس من حقنا التشكك فى نوايا ودوافع (تجار الفوضى) هؤلاء.