تعرف المرجعية بأنها المفهوم الذى يرجع إليه لمعرفة الصواب من الخطأ وفق الثقافة السائدة للمجتمع والذي يجتمع الناس في غالبهم الأعم على التراضي به. وبالاستعانة بتعريف الثقافة الذي ورد في كتاب البريطاني إدوارد تيلور(جذور الثقافة) بوصفها (الكل المركب الذي يتضمن الدين والمعرفة والفن والأخلاق والعرف) نجد أننا لا نختار المرجعية... فهي موجود قبلنا ومعنا وبعدنا فى تواتر حضارى وتاريخى متصل.. كما أننا لا نختار اللغة ولا نختار موقع الوطن ساحليًا أم صحراويًا.. ويكاد يتفق الناس فى بلادنا على اعتبار الدين هو ركيزة الثقافة السائدة. نستخلص منه سمات وخصائص القيم والأخلاق والأعراف والتقاليد وأحكام النظم والتعامل فيما يتعلق بتحقيق المصلحة العامة. بالنسبة للغة.. وهى مكون مركزي في فهم المرجعية.. فقد جاء على مصر زمان فتح فيه النقاش حول اللغة العربية وضرورة تغيير حروفها الأبجدية إلى اللاتينية.. بدأ الفكرة جميل صدقي الزهاوي سنة 1896 في عز ضعف الدولة العثمانية ولم يلتفت إليه أحد إلى أن تقدم عبد العزيز فهمي عضو مجمع اللغة العربية سنة 1944 بطلب إلى المجمع بضرورة كتابة العربية بالحروف اللاتينية ورد عليه ردًا قاطعًا الأستاذ العقاد عضو المجمع ومحمود شاكر وعبد الوهاب عزام ومحمد كرد على وخفتت الفكرة وأطلت بعدها كتابة العربية الفصحى بالعامية.. قال بذلك لطفي السيد وسلامة موسى ولويس عوض الذي كتب كتابًا كاملاً بالعامية(مذكرات طالب بعثة). وماتت الفكرة لكنها ظهرت ثانية بشكل سخيف فى أيامنا الآن على قناة فضائية تمتلكها الكنيسة القبطية باسم رجل الأعمال ساويرس وقدمت لفترة نشرة الأخبار بالعامية. وهو الأمر الذي أحدث اشمئزازًا في نفوس المصريين جميعًا القصة كلها كانت تتعلق بالثلاثية الأخطر في مفهوم الهوية (الدين/ اللغة/ التراث) بغرض الهجوم الكامل عليها.. والهوية -بضم الهاء- هي بقاء الشيء ثابتًا رغم ما يحدث حوله من تغيرات.. الهوية إذن مرمى هجوم قديم /جديد يشتد أواره ويخفت حسب الظرف التاريخي. قديمًا كان التلاعب حول اللغة واليوم يجرى التلاعب حول الدين فيما يطرح من السؤال اللئيم حول هوية الدولة(دينية أم مدنية). يخطئ من يظن أن الموضوع وليد مرحلة ما بعد ثورة يناير.. إرهاصاته بدأت بانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط اليسار في هاوية التاريخ وبدأ الغرب فى البحث عن خصيم فكري وسياسي جديد. فى الوقت نفسه كان النظام المصري السابق قد انتهى من تحديد موقفه مبكرًا من بداية الثمانينيات واتخذ موقف الخصومة اللدودة من التيار الإسلامي وعبر عن ذلك أمنيًا بما هو معروف ومشهور، وفكريًا بأن أطلق الليبراليين واليساريين ليدفعوا بالموضوع إلى أقصى مداه.. وجعله بؤرة الاهتمام وأساسًا للتصنيف السياسي والفكري. هم في الأساس لهم ثأرات قديمة مع الإسلاميين سواء بكم الغيظ المكبوت من انتشارهم الجماهيري أو بموقفهم الجوهري من (المسألة الإسلامية). وتغاضوا تمامًا عن النظام الاستبدادي الذي هو أساس التخلف والانحطاط.. تغاضوا عن تبعية الإرادة الوطنية في سياساتها الخارجية والداخلية للإملاء الأمريكي الإسرائيلي. تغاضوا عن سياسات التفكيك والإفساد التي تمت فى الجهاز الإداري للدولة المصرية وهو الجهاز الأساسي الذي يعتمد عليه المجتمع المصري فى إدارة شئونه. تغاضوا عن هدم المجتمع المدني والأهلي.. الأزمة التي لا تزول في عملية التنظيم الديمقراطي وما صاحب كل ذلك من تجريف الأحزاب والنقابات المهنية والعمالية. تغاضوا عن كل ذلك وتفرغوا لطرح (الاختيار الشقى) بين الديني وغير الديني أو ما سموه مدنيًا. استمر الأمر كما هو بعد الثورة مع ازدياد نوعية الهجوم والتطاول على نحو أكثر شراسة وعدائية. وهو ما أدى إلى تشكل المشهد السياسي كله على النحو الحاد الذى نراه الآن حول مسألة (الديني والمدني). وإذا كان اتجاه اللوم واضح وجدير لطرف محدد قبل الثورة فإنه يتجه الآن أيضًا إلى الإسلاميين الذين لم يدركوا تغير مواقعهم وبالتالي مواقفهم وقبلوا أن تكون مسألة (الديني والمدني) موضوع صراع.. فى حين أن المادة الثانية من دستور 1971م (دين الدولة هو الإسلام والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ) كانت تغنيهم تمامًا عن هذه المعارك الدونكيشوتية (نسبة إلى دون كيشوت الذى كان يخوض معارك وهمية فى قصة سرفانتس الشهيرة) ولو كانوا يمتلكون حسًا سياسيًا وتاريخيًا لما استدرجوا إلى هذه المعركة العقيمة... كل يوم تتأكد مقولة الشيخ طنطاوى جوهري عن الأستاذ البنا: (إن حسن البنا مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي إنه قلب علي وعقل معاوية). وحتى يومنا هذا لم تشهد حركة اليقظة الإسلامية قائدًا بهذه الصفة. افتقار الإسلاميين للحس السياسي نقيصة واضحة ولعل مردها إلى الملاحقة والسجون وإلى غياب السياسة من الأصل عن المجتمع طوال ستة عقود. المثير للدهشة أن ما يثار الآن عن المرجعية الإسلامية وما ينتج عن تطبيقاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية تم بحثه ودراسته على مدار القرن الماضي بما يوفى بكل الإجابات وعلى يد فقهاء وباحثين لم يكن أغلبهم ينتمى للحركة الإسلامية. وقد كان لمدرسة القضاء الشرعى دور جليل فى هذا الأمر بالنظر إلى تراث الفقه الإسلامي في ضوء التطور الحديث للقانون واضطلع خريجوها بتدريس الشريعة وأصبح تراث الفقه الإسلامي قاعدة أساسية لتقديم الفكر القانوني الحديث ونتج عن ذلك مدرسة مصرية معاصرة تعتبر الشريعة في القوانين الوضعية اعتبارًا كبيرًا.. على رأس هذه المدرسة بالطبع العلامة د.عبد الرازق السنهوري.. وتخرج من هذه المدرسة قانونيون أقباط منهم من درس بعمق مثل د.شفيق شحاتة والذي كانت رسالته للدكتوراه عن(مصادر الالتزام في الشريعة الإسلامية) ومنهم من عرض لها فى دراساته بكل إجلال مثل سليمان مرقص ووديع فرج الذى قال للأستاذ البنا فى أحد الاحتفالات بكلية الحقوق (لإن كنت تتعصب للإسلام تعصبًا دينيًا فأنا أتعصب له تعصبًا علميًا). ومن شيوخ الأزهر الذين كانت لهم عطاءات مهمة في هذا الجانب أيضًا الشيخ المراغي والشيخ شلتوت ومبادئه التسع المشهورة التى تتناول السيادة والحكم والحاكم والشورى والعدل الاجتماعي والرقابة الشعبية وعزل الحاكم ومجالس الشورى وواجبات الحكومة. ولا ينكر أحد دور الدكتور صوفي أبو طالب في السبعينيات وغيره ممن جمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية.. ناهيك عن كثير من العلماء والفقهاء القانونيين في العالم العربي والإسلامي. لا يمكن اعتبار أمر (المرجعية) إذن معضلة أنتجها وصول الإسلاميين للسلطة.. المسألة تتجاوز توازنات السلطة بل تتجاوز كل القوى السياسية والثقافية فى الوطن. لأنها تتعلق بالعمق الحضاري والتاريخي للأمة المصرية.. ومن هنا نبدأ.