"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا".. شعار رفعه العرب فى الجاهلية يجعل القبلية والقومية أساسًا للتناصر، لا مكان فيه لإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ حتى أن شاعرهم افتخر بقومه قائلاً: "لا يسألون أخاهم حين يندبهم*** فى النائبات على ما قال برهانًا"؛ أى أنهم إذا جاءهم فتى منهم مناديًا أن يا قوم هلموا نحارب فلانًا أو قبيلة فلان؛ هَبُّوا للهجوم تلبيةً لدعوته دون أن يسألوه عن سبب قيامهم بهذه الغارة العدوانية. لم يكن كل العرب على هذه الشاكلة البغيضة فقد برز من بينهم حكماء كرام تمردوا على هذه القاعدة الهمجية وحاولوا الإعلاء من شأن العدل كمعيارٍ للتناصر؛ خاصة فى مكةالمكرمة أم القرى وحاضرة العرب حيث تأسست فيها "دار الندوة"، والتى كانت بمثابة مؤسّسة جماهيريّة ومحكمة شعبية تفصل المنازعات التى يكون أحد أطرافها من اللاجئين، فترد حقوقهم وتنصف ظالمهم، وتؤمن إقامتهم، وتحرص على حمايتهم حتى تقضى حقوقهم وحوائجهم، ويرجعوا إلى أوطانهم سالمين غانمين، فيظلّ هذا التنظيم العرفى الشعبى الذى كان يمثل طورًا من أطوار العدالة عند العرب، ومرحلة من مراحل الحضارة القانونية المتقدمة. يقول الإمام الماوردى: "وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِى الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَثُرَ فِيهِمْ الزُّعَمَاءُ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمْ الرِّيَاسَةُ، وَشَاهَدُوا مِنْ التَّغَالُبِ وَالتَّجَاذُبِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ، عَقَدُوا حِلْفًا عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ، وَكَانَ سَبَبُهُ.. أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْيَمَنِ.. قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا بِبِضَاعَةٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ رَجُلٌ.. فَسَأَلَهُ مَالَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْه، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَرَدَّا عَلَيْهِ مَالَهُ، وَاجْتَمَعَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ فَتَحَالَفُوا فِى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ بِمَكَّةَ، وَأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ إلَّا مَنَعُوهُ وَأَخَذُوا لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ قَبْيلَ بعثته بالنُّبُوَّةِ، فَعَقَدُوا حِلْفَ الْفُضُولِ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِرًا لِلْحَالِ: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِى دَارِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ مَا لَوْ دُعِيتُ إلَيْهِ فى الإسلام لأََجَبْتُ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ)".. وهو الذى قال فيه شاعرهم: "إنّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا**ألاّ يقيم ببطن مكة ظالم ** أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا**فالجار والمعتر فيهم سالم". ثم أشرقت شمس الإسلام فحسم رسول الله صلى الله عليه وسلم معيار النصرة مستخدمًا نفس العبارة الجاهلية بعد تصويب مفهومها وتغيير دلالتها؛ فقال عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذ كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال صلى الله عليه وسلم: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره. وقد تكرس هذا المبدأ كأساس للحكم فى الدولة الإسلامية، فها هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضى الله عنه يعلن فى خطبته للولاية: ".. الضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله". على مدار التاريخ كانت أسس التناصر أحد معايير التفاضل بين المجتمعات؛ والتفريق بين المتحضر منها والهمجى، وبعد قرون طوال كانت السيادة فيها للقوة على حساب الحق، والتناصر للمصلحة على حساب العدالة؛ استقر فى الوجدان الإنسانى (على الأقل نظريًا) قيمة التناصر إحقاقًا للحق ونزولاً على مقتضى العدل والإنصاف؛ بعد أن دفع الإنسانُ ثمنًا باهظًا من الويلات التى جرها عليه الظلم والجور.. فقد تضمن ميثاق عُصبة الأمم التى أنشئت للحفاظ على السلام بين أمم العالم بعد الحرب العالمية الأولى النص فى مبادئه على: "تأسيس العلاقات الدولية على أساس قواعد العدل والشرف"، ونص ميثاق الأممالمتحدة على: "إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ التسوية فى الحقوق بين الشعوب.. وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعًا والتشجيع على ذلك بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.."، وكأنّ البشرية بأسرها أرادت التكفير عن تاريخٍ طويلٍ بغيض طالما جارت فيه الصقور على الحمائم. لذا فقد صدمتنا صاعقة موافقة محكمة أمريكية منذ أسابيع على نشر إعلان فى محطات المترو بمدينة نيويورك نصه: "فى كل حرب بين الإنسان المتحضر والمتوحش، ساندوا المتحضر.. ادعموا إسرائيل وقاتلوا الجهاديين المقاومين"، فهذا الإعلان العنصرى يعد نكوصًا عن القيم الأخلاقية للحضارة الإنسانية وعودة لفكرة "رسالة الرجل الأبيض" التى تأسست عليها حملات الغزو الاستعمارى البغيض فى القرون الماضية، حيث نصبت الدول القوية فى حينها نفسها كزعيم للحضارة فى العالم واجبه نشرها بالقوة بين الشعوب الهمجية المتخلفة، وكلنا يعلم الحصاد البائس لهذه الحقبة الاستعمارية التى ما زالت بلادنا تدفع ثمنها. إن فهم هذه العبارة كما يريده واضعوها أنه لو حدث مثلاً صراعٌ بين فرنسا ونيبال أو بين إيطاليا والنيجر، فينبغى على العالم المتمدين أن يقف فورًا بجوار الدولة المتقدمة بغض النظر عن التحقق عن سبب الصراع ومعرفة الظالم والمظلوم، وعندما أرادوا مثالاً يؤكد فكرتهم ويثبتها لم يجدوا سوى الكيان الصهيونى الغاصب مقابل الشعب الفلسطينى المقهور المضطهد حيث يدعو لدعم إسرائيل وقتل من يقاومها، مما يفصح بجلاء عن الجهات التى تدعم هذه الملصقات.. قد يقول قائل: هذا مجرد موقف فردى أو طائفى فى بلد تقدس حرية الرأى والتعبير، وربما لا يعبر بالضرورة عن التوجه السائد لدى الغربيين، نقول له: نعم صدقت، ويؤكد ذلك اعتراض الكثيرين من العقلاء فى أمريكا على نشر هذه الفكرة ومنهم بعض المسئولين، ولكن صدور حكم قضائى بإقرارها هو مؤشر خطير فى حد ذاته، يدعمه قيام قوات الشرطة بالقبض على الصحفية والناشطة المصرية الأمريكية منى الطحاوى التى حاولت طمس بعض هذه الملصقات، رغم أن تصرفها هذا فى حد ذاته هو من صور حرية التعبير عن الرأى. أخيرًا فإن هذه الواقعة تذكرنا بأمرين: أولهما تأكيد ما أشار إليه بعض الفلاسفة عن التفرقة بين المدنية والحضارة؛ حيث يقصرون المدنية على التقدم العلمى والصناعى والازدهار الاقتصادى والعمرانى؛ ولكنها مهما تقدمت وتطاولت لا تصبح حضارة إلا باكتسابها الشق القيمى والأخلاقى، أما ثانيهما: فهى رسالة إلى شعوبنا تنذرهم بما يدبر لهم؛ وتنبههم إلى أن من يفرط فى حظه من القوة يفرط فى حظه من الحياة؛ وأن من يفرط فى حقه من التحضر؛ يفرط فى حقه فى البقاء.