أكدت مصادر سياسية مطلعة أن جهات سيادية عليا تدخلت وطلبت من اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية التراجع عن قرارها السابق بعدم الاعتداد بالأحكام التي أصدرتها محكمة القضاء الإداري وأبطلت فيها عددا من قرارات اللجنة ، والتقدم بطعون على تلك الأحكام وفقا لمقتضيات القضاء الإداري ، كاشفة النقاب عن أن القيادة السياسية تلقت تحذيرات من مستشاريها القانونيين من خطورة تحدى أحكام القضاء ، خاصة وأن الدستور يجعل من الرئيس حكما بين السلطات الثلاث ، التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وبالتالي فإنه من غير اللائق أو المقبول لمنصب الرئاسة أن يدخل في خصومة مع السلطة القضائية ، فضلا عن أن تلك الخصومة سوف تمنح معارضي الرئيس فرصة ذهبية للتشكيك في قانونية توليه الحكم لفترة خامسة وهو ما قد يضاعف من حالة الاحتقان السياسي التي تسود الشارع المصري ، أضافت المصادر أن وفد الكونجرس الأمريكي الذي التقى الرئيس ظهر أمس الاثنين برئاسة توم ديفيز رئيس لجنة العلاقات الخارجية فاجأ الرئيس باحتجاجهم على قرار منع المراقبين المحليين من متابعة الانتخابات داخل اللجان وأن هذا مدعاة للشكوك ، وقد حاول الرئيس مبارك إلقاء تبعة الأمر على لجنة الانتخابات إلا أن اللجنة لم تقتنع بالجواب وأشاروا إلى حكم القضاء الإداري . مصادر المصريون أوضحت أن اللجنة القضائية حاولت في البداية التمسك بالحصانة التي منحها إياها النص المعدل للمادة 76 من الدستور ، وأصدرت قرارات بعدم الاعتداد بأحكام القضاء الإداري ، لكن جهات عليا ونافذة تدخلت ، وطلبت من اللجنة التراجع عن موقفها ، والتقدم بطعون قضائية ، وهو ما يعني أن اللجنة تنازلت فعليا عن هذه الحصانة ، وقررت الرضوخ لأحكام القضاء . ولفتت المصادر إلى أن سلسلة الأحكام التي أصدرتها محكمة القضاء الإداري ، وضعت المستشارين القانونيين للرئاسة في مأزق وحرج شديد ، حيث إنهم سعوا لتحصين اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات وقراراته من أي رقابة قانونية أو تشريعية ، لكن مجلس الدولة رفض الاعتداد بتلك الحصانة ، وهو ما دفعهم للتراجع وتقديم النصيحة بالطعن على تلك الأحكام ، خوفا من تفاقم الوضع ، واستغلاله من قبل الدوائر الدولية التي تراقب الانتخابات ، كما أن عدم الاعتداد بأحكام القضاء المصري ربما يدفع بعض المعارضين للجوء إلى المحاكم الدولية ، وهو أمر يتحسب له النظام بشدة وتقدمت لجنة الانتخابات الرئاسية بطعن أمام المحكمة الإدارية العليا ، تضمن شقا مستعجلا يطالب بوقف تنفيذ حكم محكمة القضاء الادارى ( أول درجة ) والذي قضى بالسماح لمنظمات المجتمع المدني بمراقبة الانتخابات الرئاسية واستبعاد وحيد الاقصرى رئيس حزب مصر العربي الاشتراكي واحد المرشحين لانتخابات الرئاسة . وأثار القرار الأول للجنة بعدم الاعتداد بأحكام القضاء ، دهشة وذهولا وانتقادات واسعة في الأوساط القضائية والسياسية ، حيث اعتبرت هذه الأوساط أن عدم إذعان اللجنة الرئاسية للأحكام القضائية ورفضها الصارخ تنفيذ هذه الأحكام إنما هو تجاوز وإهدار للقانون ربما يلقى بظلال البطلان على الانتخابات الرئاسية . وعلمت "المصريون" أن هذه الانتقادات والآراء الاحتجاجية المتزايدة قد أحدثت ارتباكا لدى النظام الحاكم وزاد من مخاوفه من أن يؤدى ذلك إلى أزمة طاحنة وخطيرة تزلزل كيان أرفع منصب في البلاد ، وكانت المحكمة الإدارية العليا قد أرجأت لأسباب إجرائية البت في الشق المستعجل إلى اليوم الثلاثاء . في السياق ذاته ، أكد فقهاء قانونيون ومحللون سياسيون أن السيناريو الذي أعده النظام لإخراج الانتخابات الرئاسية بصورة هادئة من أجل تبيض صورته أمام العالم الخارجي قد فشل تماما ، مشيرين إلى أن تراجع اللجنة الانتخابية يأتي في سياق إنقاذ ماء الوجه وتجنب حدوث أزمة قانونية ودستورية خطيرة . وأكد الدكتور عاطف البنا أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة أن عدم احترام اللجنة العليا للانتخابات لمواد الدستور 172 و68 ، والخاصة باعتبار مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة تختص بالفصل في المنازعات الإدارية وكذلك المادة 68 التي لا تحصن أي عمل إداري من رقابة الجهات القضائية ، وضع النظام في حرج بالغ حيث إن ازدراءه للقانون والدستور يقضي على أي شرعية للانتخابات القادمة أو للفائز في هذه الانتخابات أي كان. وشدد البنا على أن ضغوط النظام الحاكم وحدها تقف وراء تنازل اللجنة القضائية عن تحصين قراراتها ، فليس من مصلحة النظام أن يصطدم بالقضاء الإداري بعد وصول علاقته بمجلس الدولة ونادي القضاة إلى طريق مسدود ، كما أن هذا الاصطدام يقضي على أي شرعية قانونية للنظام ويضعه في موقف حرج للغاية أمام الرأي العام. وأعتبر البنا أن طعن لجنة الانتخابات على الأحكام الثلاثة للقضاء الإداري يعد غير ذي جدوى لأن الطعن في أحكام القضاء الإداري لا يوقف تنفيذ الحكم ، ومن ثم فالنظام في مأزق بالغ جدا ، خاصة في حالة ما إذا رفضت المحكمة هذا الطعن ، وهو المتوقع ، لذا يجب على النظام الأخذ بالأحوط وتأجيل هذه الانتخابات المطعون في شرعيتها . من جانبه ، أعتبر الدكتور عبد الحليم قنديل المتحدث الرسمي باسم حركة كفاية الأحكام القضائية الثلاثة بمثابة تحدي من مجلس الدولة والقضاء الإداري للعوار القانوني والدستوري الذي صبغ لجنة الانتخابات العليا منذ إنشائها ، واختراقا للحظر والتحصين الذي ألبسته تعديلات المادة 76 على هذه اللجنة الحكومية . وأكد قنديل أن أحكام القضاء الإداري حطمت حجرا في البناء غير الدستوري الذي حاول النظام تشييده ليسهل له تزوير إرادة الناخبين ، وخلقت حالة من الارتباك داخل دوائر الحكم ، جعلتهم يمارسون ضغوطا شديدة على لجنة الانتخابات للعودة عن الطريق المسدود التي كانت تسير بالنظام إليه وضربت في مقتل شرعية الانتخابات الرئاسية أو المهزلة - إذا صح التغيير - الذي سيجرى هذا الأسبوع. وأشار قنديل إلى أن النظام يعاني مأزقا شديدا فهو لا يستطيع الاستمرار في ازدراء الأحكام القضائية التي وضعته في موقف لا يحسد عليه ، فطعنه على الأحكام لا يوقف تنفيذها كما أن استبعاد الأقصري يوجب على اللجنة إعادة فتح باب الترشيح مرة أخرى وهذا ما يفرض تأجيل الانتخابات وهو أمر مستبعد فالنظام سيجري الانتخابات حتى لو خالف الدستور وهو ما سيعطي المعارضين له فرصة ذهبية للطعن في شرعيته حتى ولو فاز في الانتخابات. وأوضح قنديل أن هذه الأحكام قد جعلت الأوضاع تخرج من تحت سيطرة النظام وقضت له على أي شرعية للمسرحية الهزلية المسماة بالانتخابات ليدرك أن ازدراءه للقانون قد جعله يحفر قبره بنفسه. وقد اتفق السفير عبد الله الأشعل مع وجهة النظر السابقة ، مشيرا إلى أن الرئيس مبارك تحرك شخصيا لوقف المهزلة التي حدثت نتيجة عدم اعتداد لجنة الانتخابات بأحكام القضاة خوفا على شرعيته أمام الرأي العام المحلي والعالمي. وأضاف أن تنازل اللجنة عن حصانتها يعكس رغبتها في إعطاء نوع من الشرعية واحترام القانون لأعمالها لكن هذه المحاولة ستبوء بالفشل بعد أن وضعت النظام في مأزق ووضعت شرعية الانتخابات محل تساؤل كبير. واستبعد الأشعل لجوء النظام إلى تأجيل الانتخابات حتى لو صدرت آلاف من الأحكام القضائية ، قائلا " هذا النظام عرف عنه ازدراء القضاء وعدم احترامه للدستور ولا يستطيع اتخاذ خطوة التأجيل لأنه سيفتح عليه أبواب جهنم وتجعل هناك فرصة أمام جهات أخرى للطعن في تعديلات المادة 76 وهذا ما سيسير بالنظام إلى طريق مسدود ". وأوضح الأشعل أن إصرار الحكومة على عدم السماح لمنظمات المجتمع المدني بمراقبة الانتخابات يعكس رغبتها في تزوير الانتخابات والبعد عن أي مساءلة سيفرضها عليها وجود مراقبين ، ومن ثم فأن شرعية الانتخابات الرئاسية مفتقدة ولو كان النظام يحترم نفسه لأصدر قرارا بتنفيذ أحكام القضاء وهذا ما يعني تأجيل الانتخابات وهذا الأمر في حالة حدوثه سيشكل انتحارا للنظام. أما المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض ورئيس اللجنة المكلفة بتفعيل قرارات الجمعية العمومية لنادي القضاة ، فقد حمل اللجنة الانتخابية مسئولية المأزق الحالي ، وأوضح أن الموقف الأول للجنة كان من الممكن إن يؤدي إلي تضارب وأزمة بين مؤسسات الدولة القضائية والدستورية العليا ، لكنها بتراجعها تكون قد لجأت إلي الطريق الحضاري والسلوك المهذب من خلال الطعن في الأحكام التي أصدرتها محكمة القضاء الإداري. وأضاف مكي أنه كان علي اللجنة العليا للانتخابات أن تسمح لمؤسسات المجتمع المدني أن تراقب العملية الانتخابية لتحقيق الشفافية والعلنية اللازمة لكسب ثقة الشعب في نتائج الانتخابات . واستبعد نائب رئيس محكمة النقض أن يكون لهذا الطعن تأثيرا علي سير العملية الانتخابية ، لكنه سوف يؤثر بالتأكيد على ثقة الشعب واطمئنانه لشرعية النتائج. من جانبه ، أرجع الدكتور محمد سيد سعيد الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ، تراجع اللجنة إلي تدخل الدولة وإصدارها تعليمات للجنة بالتراجع عن هذه التصريحات التي وضعتها في موقف بالغ الحرج ، مشيراً إلي أن ما شجع النظام علي الضغط علي اللجنة هو وجود فرص للطعن علي أحكام القضاء الإداري وحتى يظهر في موقف يحترم القانون والدستور لذلك حث اللجنة علي اتخاذ موقف مهذب بدلا من تجاهل أحكام القضاء . في السياق ذاته ، وجه حسين عبد الرازق الأمين العام المساعد لحزب التجمع انتقادات عنيفة للجنة الانتخابات الرئاسية ، مشيرا إلى أنها دخلت في صدام مع نادي القضاة المعبر عن جموع القضاة المصريين وجميع مؤسسات المجتمع المدني الحقوقي ثم تعالت علي أحكام القضاة . وأوضح عبد الرازق أن هذه التصريحات والمواقف جعلت اللجنة معزولة ومرفوضة من الرأي العام وهددت شرعية انتخابات الرئاسة ، معتبرا أن اللجوء إلي القضاء للطعن في أحكام المحكمة أمام الإدارية العليا يعني أن اللجنة سلمت بوجود الحكم وسلكت الطريق القانوني وهو موقف إيجابي. وعن مدى تأثير هذه المواقف القضائية المتناقضة على شرعية الانتخابات القادمة وبالتالي شرعية رئيس الجمهورية ، أكد عبد الرزاق أن الرئيس مطعون في شرعيته من الآن نتيجة للإجراءات التي اتخذها النظام بدأ من الصياغة الغريبة لتعديل المادة 76 من الدستور ثم قانون انتخابات الرئاسة وبعد ذلك قوانين تعديل القوانين الخاصة بعملية الإصلاح السياسي وصولا إلى تشكيل اللجنة المشرفة على انتخابات الرئاسة وصدامها مع القضاء ومنظمات حقوق الإنسان وكل ذلك أفقد الناس الثقة في الانتخابات .