وقفتُ متهيِّبًا مذعنًا وأنا أرى «الشريعة الإسلامية» تشمل وتجاوب عن كل شىء وفى كل وقت، رغم ثبات نصوصها، غير أنها كما قلتُ مرارًا: مِن جنس الثابت المرن، فهى نصوصٌ ثابتة، لا تزيد ولا تنقص، غير أنها مرنة تتسع بقواعدها وإشاراتها الكُلِّية لتشمل وتحيط بكل ما كان وما سيكون، فهى شريعة محيطة عظيمة، ثم هى ثابتة مضطردة مستقرة، يأمن الناس معها وفى ظلِّها مِن التقلُّب والتغيُّر كما هو حال القوانين الوضعية. وفى هذا يقول الطبرى: «فى تأويل قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، يقول تعالى ذِكْره: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وهو القرآن، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: وإِنَّا للقرآن لحافظون مِن أنْ يُزاد فيه باطلٌ؛ ما ليس منه، أو يُنْقَص منه ما هو منه؛ مِن أحكامه وحدوده وفرائضِه» [«تفسير الطبرى» (14/18)]. وهو مع هذا الحفظ والثبات والاستقرار، والحيلولة ضد أى تبديلٍ أو تغييرٍ، مُعْجِزٌ شاملٌ محيطٌ، يمكن لمن وفَّقه الله عز وجل، ورزقه الفهم؛ أنْ يستنبط منه أحكام الحوادث النازلة على مرِّ العصور واختلاف الحوادث بطريقٍ أو بآخر.. وهكذا الشريعة فى حقيقتها الكلية الشاملة لما لا حصر له من الجزئيات. وفى هذا يقول الشاطبى: «الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست فى غيره ولو فى نفس التعيين» [«الموافقات» (5/14)]. ويزيد ابن تيمية هذا الأمر تفصيلاً فيقول: «القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هى قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور فى القرآن والحديث باسمه العام؛ وإلا فلا يمكن ذكر كل شىء باسمه الخاص؛ فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)، وقال تعالى: (الَّذِى نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فاسم (الناس) و(العالمين) يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم والهند والبربر، فلو قال قائل: إن محمدًا ما أُرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم فى القرآن؛ كان جاهلاً؛ كما لو قال: إن الله لم يرسله إلى بنى تميم وبنى أسد وغطفان وغير ذلك من قبائل العرب فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة؛ وكما لو قال: إن الله لم يرسله إلى أبى جهل وعتبة وشيبة؛ وغيرهم من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة فى القرآن» [«مجموع الفتاوى» (24/206 – 207)].. واستطرد ابن تيمية فى بيان أمثلة أخرى على هذه المسألة. والمقصود أن عموم الشريعة يجعلها شاملة لكل مستجدات الأزمنة وأحداث الأمكنة، شمولاً يحقق سعادة البشر ورفاهيتهم.. وكل ما يستجد من وقائع وأحداث، لها أحكامها الخاصة بها فى الشريعة، دون إخلال بأحكام وقائع وأحداث أخرى، وما علينا سوى استفراغ الجهد فى استنباط الأحكام التفصيلية من أدلتها الكلية، والفقه فى حقيقته هو استفراغ الوسع لمعرفة الأحكام الشرعية التفصيلية عبر الاجتهاد فى أدلتها الكلية أو الإجمالية.. ولهذا أطال علماء أصول الفقه فى الكلام على الاجتهاد، وطرق الاستنباط من الكتاب والسنة، والترجيح بين الأدلة عند الاختلاف، للوصول لحكم المسائل التفصيلية. ومرحلة الاستنباط هذه ليست فوضى، وإنما تخضع لشروط فى الدليل المستنبط منه، وأخرى فى المجتهد الذى سيستخرج الحكم من هذا الدليل، وقد بحث العلماء هذا كله فى أبواب شروط الاجتهاد وآداب المجتهد أو المفتى.. والمقصود: أولاً: إنه ما من شىء إلا وتشمله الشريعة بعموم قواعدها الكلية، مهما كان، وفى أى زمانٍ كان. ثانيًا: ضرورة العودة لأهل العلم بالكتاب والسنة لمعرفة الأحكام التفصيلية أو الجزئية؛ لأنهم الأعلم والأقدر على استنباطها من أدلة الشريعة الكلية. ثالثًا: عدم ارتباط الشريعة بزمنٍ أو مكان؛ بل هى شريعة عامة لكل الأزمنة، وجميع الأمكنة. رابعًا: إن إحاطة الشريعة بوقائع لا تنحصر ليس مستغربًا؛ وإذا كانت قواعد القانون الوضعى البشرى تحيط بعشرات الوقائع الفردية فما بالكم بشريعة خالق الخلق جل وعلا؟. خامسًا: خطأ حصر الشريعة فى بعض أبوابها كالحدود أو المعاملات الشخصية، لأنها بعمومها تشمل هذه الأبواب وغيرها. [email protected]