طالما تمنيتُ أن تكون هناك لقاءات دورية بين أهل العلم، وبين سائر الأطياف لشرح أسس الإسلام وأبعاده، خاصة بعدما كشف كلام بعض الناس عن جهل عميق بالحقائق الإسلامية، الأمر الذى دفع بعضهم أن يعترض بلهجة حادة على أصحاب المرجعية الإسلامية ويقول: «المرجعية الإسلامية هذه تخصهم فى أنفسهم وليست فى نظم الدولة، فأنا عندما أسأل أحدهم عن الاقتصاد فلا يذهب ويفتح لى المصحف» أه. وإنْ كنا نعتب على صاحب هذا الكلام تقصيره فى السؤال والتعلُّم، فنحن نعتب أيضًا على الإعلام الذى صنع جبالاً مِن الأمية الدينية. وعلى الرغم من تحفظنا على لفظ «المرجعية الإسلامية» من بعض الجهات؛ إلا أننا نساير الواقع وننحاز إلى تفسيره بحاكمية الشريعة، أو بالرجوع إليها فى كل الأمور. ففى «معجم اللغة العربية المعاصرة» (د.أحمد مختار) (2/863): «مَرْجِعيَّة دينيَّة: سلطة، جهة أو شخص تَرْجِع إليه طائفة دينيَّة معيَّنة فيما يخصُّها أو يشكل عليها من أمرها» أه. وهذه المرجعية هى الضابط الحاسم بين جميع الناس؛ لأنه كما قيل: «للناس بعدد رءوسهم آراء!»، فلابد من حَكَم فَصْل فيما يتنازعون فيه، ولهذا قال سبحانه وتعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ» (النساء:59). يعنى الرد الآن إلى الكتاب والسنة. فلابد عند التنازع أن نعود للكتاب والسنة، لعصمتهما وشمولهما. وإنما ينشأ الخلل عند القصور عن تصور ماهية النصوص وحقيقتها، فى شمول جميع المستجدات، فالنصوص وإن كانت ثابتة لا تتبدل ولا تتغير إلا أنها مرنة شاملة، فهى ثابتة مرنة فى نفس الوقت، أو بعبارة أخرى هى محصورة فى ألفاظ محددة؛ تتسم بالشمول والعموم فى دلالتها؛ فتهيمن على جميع المستجدات، ويكون على الفقيه إفراغ الوسع فى استنباط الأحكام التفصيلية من أدلتها الإجمالية. يقول ابن تيمية فى «المنهاج» (6/139): «فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامة، يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة، فلابد من الاجتهاد فى المعينات: هل تدخل فى كلماته الجامعة أم لا؟ وهذا الاجتهاد يسمى: تحقيق المناط، وهو مما اتفق عليه الناس كلهم» أه. وقال أيضًا: « فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هى قواعد عامة وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور فى القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شىء باسمه الخاص». «مجموع الفتاوى» (34/206). ويقول الشاطبى فى «الموافقات» (5/14): «إن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست فى غيره» أه. فعندما نطالع قوله سبحانه وتعالى: «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ» (الأعراف:157)؛ فنحن بهذا الدليل الشرعى العام نعلم حِلّ جميع الأشياء الطيبات، وحُرمة جميع الأشياء الخبائث، مهما بلغت أعداد الطيبات أو الخبائث، وهذا وجهٌ آخر من وجوه إعجاز القرآن الكريم وفصاحته، التى تجمع الأعداد التى لا تنحصر تحت لفظ واحد باستيفاء تام لحكم جميع الأعداد، ويبقى على الفقيه أن يستنبط الأحكام التفصيلية لكل شىءٍ مِن هذه الأدلة العامة. فعدم وجود النص على الشىء باسمه المعروف بيننا؛ لا يمنع مِن وجوده منصوصًا عليه فى الشريعة ضمن لفظ مطلق عام. وهذا وجهٌ من وجوه عظمة هذه الشريعة القائمة على الوحى، بخلاف ذاك القانون الوضعى القائم على العقل البشرى بقصوره الواضح فى نصوص القانون المتضاربة من جهة، والعاجزة عن تحقيق متطلبات الناس من جهة أخرى. فلا يسعنا بعد هذا إلا أن نسجد لله شكرًا على نعمة الإسلام، فالحمد لله رب العالمين. [email protected]