هناك من يرى أن "جمال مبارك" حسم معركة التوريث لصالحه وانتهى الأمر، وفى المقابل هناك من يرى أن شيئاً لم يحدث، وأن التوريث مازال احتمالاً مستبعداً. كل فريق يعتقد أن الحق معه، ويقدم من الأدلة ما يؤيد موقفه، وفى تقديرى أن الموقفين كليهما خطأ، وأنهما معاً ينكران حقيقة بسيطة مؤداها أن التاريخ لا ينتهى عند نقطة، التاريخ بخلاف سباقات العدو لا يعرف "الوصول إلى خط النهاية" لكنه حلقات متصلة، لا تغلق إحداها إلا وقد فتحت حلقة أخرى متصلة بها، وليست "معركة التوريث" إلا حلقة موصولة بما قبلها وما بعدها، فلا هى بدأت بتصعيد جمال مبارك، ولا هى تنتهى بوصوله ولا بعدم وصوله إلى كرسى الرئاسة. ولعلكم تذكرون أن اسم "علاء مبارك" الأخ الأكبر قد تردد كوريث محتمل من قبل، صحيح أنه تردد فى سياق خلا من أية خطوات جدية، لكن تردده حمل دلالة قوية على أن فكرة "التوريث" واردة من حيث المبدأ. ثم لعلكم تلاحظون أن الرئيس "مبارك" أصر على ألا يكون له نائب منذ جاء إلى الحكم فى 1981، حتى فى الأوقات التى بدا فيها وجود النائب ضرورة ملحة، مثل الوعكة الصحية التى ألمت بالرئيس منذ سنتين، وجعلته يسافر إلى "ألمانيا" لتلقى العلاج. وقتها بدا أن "الاستقرار" مطلب الرئيس "مبارك" الأساسى منذ تولى الحكم يقتضى تعيين نائب، لكن الرئيس واصل إصراره على أن يظل بلا نائب، كما واصل الاحتفاظ بالأسباب التى دعته إلى اتخاذ هذا الموقف سراً لم يفصح عنه، وإن أفصح عنه "التوريث"! هذه "البدايات" تكشف العودة إليها أن المعارضة بدأت حركتها ضد التوريث متأخرة وعلى نحو مرتبك، وكانت الصراعات بين فصائلها فى كثير من الأحيان أقوى من نضالها ضد التوريث. كان بوسع المعارضة لو استيقظت مبكراً أن تجمع أمرها وتفرض وجود نائب للرئيس، لكنها لم تفعل، بل وكان هناك بين صفوفها من يرحب بعدم وجود النائب، لأسباب منها ما يخص التنافس بين فصائل المعارضة وارتباطات بعضها بمؤسسات الدولة. هذا التنافس الذى ظل يغذى الارتباك فى حركة المعارضة، ويجعلها أحياناً تبدو غير قادرة على تحقيق الحد الأدنى من الاتفاق. بينما نجح النظام فى إجراء العديد من الترتيبات فى الداخل لصالح "التوريث"، مثل التغييرات التى أجريت فى العديد من المناصب والتى جاءت برجال "الوريث"، من أول مجلس الوزراء وحتى أمناء الحزب الوطنى فى القرى والمراكز والمحافظات، مروراً بقيادات المؤسسات الصحفية الحكومية. وترتيبات فى الخارج أيضاً، أهمها ما يخص موقف أمريكا، التى لم تعد إدارتها تقف ضد التوريث، ولو من باب التظاهر، الأمر الذى يستند إليه هؤلاء الذين يرون أن معركة التوريث حسمت وانتهى الأمر. وهى رؤية يعيبها أن الأمر لا ينتهى أبداً، وأن احتمالات التغيير قائمة مادام الإنسان موجوداً. كما فات أصحابها أن كل المطروح هو "ترتيبات"، وأن النظام حتى الآن لا يستطيع "الجهر" بالتوريث، ما يعنى أنه فى حاجة إلى ترتيبات أخرى. وإذاً فالتصور الأقرب إلى الصواب هو أن "الكرة فى الملعب"، وأن الصراعات المبدئية لا تنتهى أبداً حتى وإن انتهت إحدى جولاتها لصالح أحد الأطراف، ففكرة "الجولة القادمة" واردة دائماً، والظرف الذى يعمل اليوم لصالح طرف يمكن أن يتحول غداً لصالح طرف آخر، مثلاً فإنه إذا كان النظام نجح فى إغلاق ملف التحقيق فى الاعتداء على الصحفيين والمحامين يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، فإن المعتدى عليهم نجحوا فى تحويل الملف إلى "الاتحاد الأفريقى"، ما يفتح الطريق أمام نظر القضايا المصرية الداخلية أمام محاكم دولية، و"الصديق الأمريكى" المتورط حالياً فى العراق لن يبقى متورطاً للأبد، والمؤكد أن نزع قدمه من وحل احتلاله للعراق ستصاحبه رغبة قوية فى التخلص من "الفواتير" التى كان مضطراً إلى سدادها عندما كان غارقاً فى هذا الوحل. الكرة فى الملعب، والمجال مفتوح لفرز القوى الوطنية الحقيقية القادرة على وضع تقييم صحيح للموقف، لا لكى توظفه لصالحها بانتهازية، بل لكى تخوض نضالها لصالح الوطن فى ظل رؤية صحيحة. [email protected]