إذا أردنا أن نقيس ما طرأ على مصر من تغيير قبل و بعد إلغاء "الإستفتاء" و اختيار الرئيس ب"الانتخاب" ، فما علينا إلا أن نراجع صحيفة الأهرام الصادرة يوم الجمعة الماضي ، بعد يوم الاقتراع بيومين ، سيما مقال رئيس تحريرها الجديد أسامة سرايا كان عنوان مقال سرايا و الذي جاء في شكل مانشيت ضخم و مبالغ فيه مخاطبا الرئيس يقول " معك .. حيث وعدتنا" .. طبعا سرايا كان يقصد الرئيس مبارك ، و قبل أن تعلن النتيجة رسميا ، و كانت عملية الفرز في بداياتها و لم تنته بعد !. و إذا افترضنا أن سرايا مثله مثل جميع المصريين ، كان على يقين بفوز الرئيس مبارك ، فإن شكل العنوان و مضمونه ، هو الذي يثير الانتباه حقا ، إذ جاء على ذات النمط التي اتبعته صحافة النفاق المصرية ، في كل عهود الحكم الديكتاتوري الفردي ، فالعنوان على هذا النحو كان إعلانا طبيعيا و عفويا على أنه ليس ثمة شئ قد تغير في مصر ، فالحزب الواحد و الرئيس الأوحد و الاستفتاء ظلوا جميعا على حالهم . و لقد بلغ الأمر بسرايا أن يكتب أسفل المانشيت مباشرة قوله " التاريخ سيفرد صفحات لم تذكر لغير الرئيس مبارك الذي أعاد للمصريين حق اختيار من يحكمهم " .. هذا كلام سخيف و كذب لا يصدقه إلا البلهاء ، إذ إن نظام حكم الرئيس مبارك الذي صادر حق المصريين طوال ربع قرن حتى من حق اختيار العمد في القرى و النجوع المهمشة ، هو الذي صادر حقهم في اختيار رئيسهم اختيارا ديمقراطيا حقيقيا بنزاهة و شفافية و من بين كل القوى التي تمثل الطيف السياسي الوطني المصري بلا تمييز أو تهميش ، أو تحيز أو استبعاد ، بعد أن استعان بترزية القوانين الذين فصلوا له التشريعات التي تبقي على الأوضاع لا تبرح فكرة الاستفتاء القديمة المتخلفة و أن يكون الاستفتاء عليه هو وحده .. و لولا الخجل لكانوا اشترطوا أي يكون اسم المرشح المستفتى عليه لا يكون إلا "محمد حسني مبارك". و لكي ندرك حجم الإحساس بالخزي من نتائج الانتخابات ، أيضا أحيل القارئ إلى ذات العدد من الأهرام ، و في الصفحة الأولى و في المانشيت أيضا ، إذ يقول أهرام سرايا "نسبة المشاركة في التصويت زادت علي35 % بإجمالي11 مليون ناخب" !! و هو كذب بواح لا ندري من أين أتى به كاتب الخبر ، و إن كنت أعتقد أنه لن يكون بعيدا عن توجيهات و إشراف أسامة سرايا نفسه ، فنحن صحفيون محترفون و نعلم أن المانشيت لا يستقر عليه إلا بعد مناقشة و دراسة مستفيضة تحت الإشراف المباشر و الدقيق من رئيس التحرير. من أين جاء سرايا بهذه النسبة التي فاقت 35% بحسب وزعمه رغم أن اللجنة المشرفة على الانتخابات قالت أن نسبة الاقبال 23 % فقط ؟! ، يعني حوالي 7 مليون مصري؟! و بالطبع فإن هذا الرقم الهزيل .. له الكثير من الدلالات على رأسها ، أن الشعب المصري لم يتحمس للمشاركة بالإدلاء بصوته ، لقناعته بعدم جديتها ، و أنه فقط مطلوب منه أن يقوم بدور الكومبارس في فيلم معروف نهايته "السعيدة" سلفا .. هذه النسبة كانت في حد ذاتها استفتاء جديدا على شرعية التعديلات التي أدخلها الحزب الوطني الحاكم على المادة 76 من الدستور ، فالناس غير مصدقين أنها عادلة و جادة و من ثم تركوا لموظفي الدولة المغلوبين على أمرهم القيام بواجب "العزاء" في هذا المأتم الديمقراطي الكئيب . و أعيد و أكرر هنا إن الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات ، هي القوى الوطنية المصرية ، التي استطاعت رغم الصعوبات الكبيرة التي فرضها النظام للحيلولة دون رقابته و أن ينجز طبخته الانتخابية في الظلام ، رغم كل هذه الصعوبات .. إلا أن القوى الوطنية المصرية ، نجحت في تحجيم النظام و تخويفه ما حال بقدر الإمكان دون أن يتلاعب بحرية في الأرقام ، ليقبل في النهاية مرغما بأن يفوز الرئيس الجديد (القديم ) بأصوات 6,5 مليون مصري يعني أنه لا يملك تفويضا من الشعب المصري إلا بقدر ما يملكه نائب " حي شبرا" من تفويض في البرلمان .. فالنتائج بلا شك كانت مخيبة لآمال الحزب الوطني ، و مبشرة بإعادة إحياء المجتمع المدني المصري من جديد ، و رسالة إلى النظام مفادها أن الصلاحيات و السلطات الواسعة للرئيس لابد أن يعاد النظر فيها ، بعد أن أشارت النتائج رغم التلاعب و عمليات الحشد الحكومي الواسع النطاق إلى أنه ليس له من التفويض ما يؤهله للانفراد بكل هذه الصلاحيات . [email protected]