الضجة الكبرى التى تثار من حين لآخر حول البرنامج النووى هنا أو هناك ترتكز فى ظاهرها على الحرص على منع انتشار الأسلحة النووية، على اعتبار أنها أسلحة دمار شامل تهدد كوكب الأرض عمومًا.. ولكن الحقيقة الواضحة أن هناك أهدافاً أخرى مستترة؛ أهمها السيطرة على عملية التقدم التقني، ومنع دول الجنوب "المتخلف" من اللحاق بدول الشمال "المتقدم".. فالتقنية النووية تتطلب إجراءات وممارسات واحتياطات إدارية وعلمية وفنية فائقة الدقة والصرامة.. وغير مسموح فى المحطات النووية بأية نسبة من الإهمال أو التراخى أو التواكل أو الكسل، أو بأقل احتمال من الخطأ؛ وإن ضؤل.. وهذا من شأنه أن يوفر للدولة الممارسة لذلك النشاط جيشاً من الخبراء والتقنيين البارعين المبدعين الذين يمكن أن يكونوا جاهزين وقادرين على الإدارة الناجحة لأى عمل تقنى آخر.. وإذا علمنا أن المحطة النووية تستوعب بطبيعة الحال جميع التخصصات العلمية والتقنية والفنية والإدارية، وأن العاملين فيها يتم استبدالهم دوريًا ومبكرًا لحمايتهم من آثار الإشعاع المحتملة.. فهذا يعنى أن الدولة (النووية) تستطيع- بالاستفادة من هؤلاء الخبراء- أن تُحدث نقلة نوعية تقنية عظيمة فى جميع المجالات، كما حدث فى كل الدول النووية، وهذا بالطبع غير مرحب به من قوى الاستكبار العالمي.. كما أن الاستخدام الناجح للتقنية النووية يؤدى بالتأكيد إلى فوائد اقتصادية عظيمة من خلال توفير مصدر رخيص ونظيف للطاقة، وتحلية مياه البحر بكميات وفيرة تشجع على زراعة الصحراء، وغير ذلك الكثير. أما قضية الأسلحة النووية فهى على أهميتها وخطورتها ليست بالضبط هى بيت القصيد.. لأنها فى الحقيقة أسلحة للردع أكثر منها للاستخدام، وهى منتشرة بوفرة فى أركان المعمورة، وتمتلكها العديد من الدول الكبرى والصغرى، ووصلت إلى دول تعتبر مارقة أو خارجة عن السيطرة الغربية مثل باكستان وكوريا الشمالية والهند.. ولم يحدث شيء على الإطلاق؛ لأن السلاح النووى لا يمكن استخدامه إلا على بُعد آلاف الأميال.. أى خارج نطاق الصراع بين الدول المتحاربة، لأن أغلب الحروب تكون بين دول الجوار.. فالتلوث الذى ينجم عن استخدام الأسلحة النووية، والذى يمكن أن يصل إلى المستخدم نفسه، يجعل من هذه الأسلحة مجرد وسيلة للتباهى بالقوة، أو لمجرد الردع والشعور بالثقة والاستقلال الفعلي. وقد يكون الردع والتلويح بالقدرة على إيذاء العدو أحد لوازم الصراع الذى جُبل عليه النوع البشري، ولكن الإحاطة بالصورة الكاملة وبطريقة صحيحة تجعلنا نعطى الموضوع حجمه الحقيقي، ولا نسير معصوبى العينين وراء الإعلام الغربى الموجه، الذى يريد أن يثير لدينا المخاوف، بل والرعب، من البرنامج النووى الإيرانى مثلا، ولا يشير من قريب أو بعيد للترسانة النووية الصهيونية (التى لا نخشاها- بالمناسبة، لأنه يستحيل استخدامها ضد دول الجوار مادام اليهود فى فلسطينالمحتلة).. فقد قامت الدنيا ولم تقعد عند الحلف الصهيونى الأمريكى لمحاولة إيران امتلاك جزء من المعارف الحديثة المهمة، وهى المعرفة النووية.. ولجأ هذا الحلف إلى الخداع وإيهام العرب بخطورة امتلاك إيران للسلاح النووي، وأنه (أى السلاح النووي) سوف يكون خطرًا على العرب أنفسهم.. فهل صحيح أن امتلاك إيران للمعرفة النووية، أو حتى للسلاح النووي؛ يشكل خطرًا على العرب؟، وهل من حق الحلف الصهيونى الأمريكى أو غيره منع العرب والمسلمين (أو غيرهم) من امتلاك السلاح النووى كأداة ردع ضد من يهدد وجودهم بترسانته النووية؟. هناك ما يعرف بالاستراتيجية النووية، والتى تسعى الدول المستهدَفة من عدو إلى تحقيقها، وترتكز على محاور أربعة: (1) منع العدو من امتلاك السلاح النووى (أو القدرة على امتلاكه) بكافة الوسائل الممكنة، حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير المنشآت النووية للعدو، وقد فعل ذلك الكيان الصهيونى عام 1981 ضد المفاعل النووى العراقي، وقبلها فى أحد الموانئ الفرنسية ضد مفاعل عراقى أيضًا، وحاول ضد مصر أثناء حرب الاستنزاف ولكنه أخطأ الهدف ودمر مصنع الحديد والصلب (أبو زعبل). (2) إذا لم تتمكن الدولة المستهدفة من منع العدو من امتلاك السلاح النووي؛ فهى تسعى لامتلاكه، وقد فعل ذلك الاتحاد السوفيتي، وباكستان، وكوريا ...إلخ. (3) إذا عجزت الدولة عن تحقيق أحد الخيارين السابقين، فهى تحرص على امتلاك خيار بديل يصلح رادعًا لمنع العدو من استخدام سلاحه النووي، مثل الأسلحة الكيميائية أو حتى التقليدية بشرط استخدامها بكثافة على مئات المواقع فى وقت واحد بالاستعانة بالصواريخ والطائرات.. إلخ، بحيث يفهم العدو أن الرد سوف يكون موجعًا ولا قبل له به. (4) إذا كانت الدولة (عاجزة) عن تحقيق أى من الخيارات السابقة؛ فعليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستيعاب الضربة النووية وتقليل الخسائر بقدر الإمكان، أى تظل على قيد الحياة، وهذا خيار العاجز.. وبالمناسبة فحتى هذا الخيار الأخير (العاجز) غير موجود فعليًا فى الدول العربية.. (ونستكمل الموضوع بالمقال القادم إن شاء الله). [email protected]