لا يوجد مثقف أو دارس أو شغوف بالمعرفة لم يمر على الموسوعة الشهيرة بل الأشهر "قصة الحضارة" لمؤلفها ويل ديورانت وزوجته، ورغم أن اسم ديورانت ارتبط بهذا المؤلف الضخم والعملاق إلا أن له أعمالًا أخرى لها وزنها وقيمتها، ومنها "قصة الفلسفة". ولد ويل ديورانت في مثل هذا اليوم عام 1885، وتلقى في البداية تعليمًا كاثوليكيًا صارمًا، بيد أن نفسه ومزاجه كان ملتهبًا بقصص العظماء والتاريخ ومسيرته، فلم يستسغ في هذه الفترة التعليم الكنسي، وفرض على أهله أن يقبلوا التحول إلى دراسة التاريخ والفلسفة، وكان ديورانت مشهودًا له بقدرة عجيبة على التوازن بين العمل المنظم والرغبة في المغامرة، وشيئًا فشيئًا وصل ديورانت إلى مرتبة أستاذ في أرقى الجامعات "جامعة كولومبيا" بعد أن نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة . كان يلقي محاضراته على الطلبة دون التقيد بالمناهج المقررة واختار ركن القادة والزعماء الأبطال الذين تركوا بصماتهم على التاريخ حتى اجتذبت محاضراته الكثير من الطلبة والمهتمين حتى من خارج أسوار الجامعة، وتميزت محاضراته بالطراوة والتشويق والتركيز على جهاد الإنسان في التاريخ وفي الطبيعة، وكان لديه ميل واضح للشخصيات العبقرية والفذة التي اعتبرها ديورانت ملح التاريخ ووقوده . وبعد أن لاقت محاضراته نجاحًا غير مسبوق قرر أن ينشر كتابًا مستمدًا في أغلبه من هذه المحاضرات اسمه "قصة الفلسفة"، ولاقى هذا الكتاب انتشارًا كبيرًا وعاد على مؤلفه بواردات مالية مكنته من التخلص مما كان يثقل عليه في عمله في الجامعة، فتحرر من هذا العمل وشرع في تأليف قصة الحضارة الذي استمر في تأليفه أكثر من ثلاثين سنة، معتمدًا في معاشه كل هذه الفترة بصورة رئيسة على واردات كتاب قصة الفلسفة، ولا يزال هذا الكتاب يلقى رواجًا في العالم أجمع وقد ترجم إلى اللغة العربية مرتين، ولا تكاد تخلو مكتبة من المكتبات العامة والخاصة منه وبعد تأليف قصة الفلسفة كتب ديورانت ما يمكن اعتباره تدوينًا لرحلته الفكرية وقلقه المعرفي عندما أصدر كتابًا بعنوان "التحول"، تحدث فيه عن ضيقه وتبرمه من التفكير المقولب وشغفه بمعرفة حياة البشر على حقيقتها خاصة من قبل العظماء والقادة التاريخيين الكبار، وبعد ذلك بثلاث سنين تقريبًا أصدر كتابًا رائعًا آخر بعنوان "مباهج الفلسفة"، حاول في هذا الكتاب أن يقرب المفاهيم الفلسفية بطريقة أدبية رائعة إلى القارئ العام. واستمرت مغامرة ديورانت في الكتابة عن الشخصيات النافذة والمؤثرة عندما كتب بعد هذا الكتاب "مغامرون في بحار العبقرية".، ثم تفرغ بعد ذلك وزوجته لأكبر مشاريع التأليف في العصر الحديث، عندما وضع ديورانت قصة نابضة شيقة للحضارة الإنسانية كلها في 39 مجلدًا، وقد وعد قراءه أن يحرر كتابًا في أعقاب إتمامه لقصة الحضارة بعنوان "عظات التاريخ" وكتبه فعلاً، ثم كتب بعد ذلك كتابًا آخر وفاءً لزوجته التي شاركته هذه المسيرة الطويلة بعنوان "سيرة حياتنا"، وقد وضع اسم الزوجة على الأجزاء الأخيرة من كتابه قصة الحضارة، وقبل أن يغادر هذه الدنيا الفانية عام 1981 وقبل بلوغه مائة سنة مارس ديورانت هوايته في مداعبة أبطال التاريخ وتكريمهم فكتب آخر كتبه بعنوان "أبطال من التاريخ" وكأنه أراد أن يودع هؤلاء الذين أحبهم واعتبر وجودهم ضروريًا في كل عصر ومصر. يشكل الكتاب صورة نابضة لحياة الإنسانية في صعودها وهبوطها، أفراحها وأحزانها، ومن الميزات الأخرى التي تحلى بها المؤلف انفتاحه على جميع الحضارات الإنسانية، فلم تكن لديه هذه النزعة العنصرية أو النوايا المسبقة لبعض المستشرقين فانطلق يكتب موسوعته وقد حدد لنفسه هدفًا بقوله في الجزء الثاني عشر "أن الغرض الذي أبغيه من تأليف هذا الكتاب هو أن أعرض قصة الحضارة كاملة بعيدة عن الهوى بقدر ما تسمح به الطبيعة البشرية، أما الطريقة التي اتبعتها في التأليف فهي النظر إلى التاريخ كله على أنه وحدة شاملة يكمل بعضه بعضًا".