مصر هى البلد العربى الوحيد الذى لا يعرف القبائل ولا القبلية ولا مشاكلها السياسية والاجتماعية التقليدية. ولهذا فإن (مصر) بتجانسها ووحدتها تتحرك ككتلة واحدة عادة دون أن تعرف الانقسامات والشظايا، التى تفكك كثيرا من الشقيقات العربية، بما يمنحها ثقلا فعالا، ووقعا، يزيد عن ثقل عدة وحدات صغيرة لها نفس مجموع حجمها. ولهذا كان الاستقرار السياسى فى (مصر)، سمة واضحة تتباين بسهولة مع أحوال الشرق العربى. والنتيجة أن (مصر) أقوى قوة من العرب مرتين: مرة بمطلق حجمها ومرة بتجانسها المطلق. والنتيجة أيضا هى أن (مصر)، لهذا كله، هى مركز الثقل وقطب القوة، فى العالم العربى.. ينتشر ظلها، وشبه الظل، بل والصدى بعيدا فى آفاقه. وإذن، فضخامة حجم (مصر) بالقياس إلى الدول العربية الأخرى لا يمكن أن يكون حاجز خوف أو شك.. بل يجب أن يكون صلة اطمئنان واعتماد، من جانب الوحدات العربية الملاصقة والبعيدة على السواء. هذه هى الحقيقة الثابتة التى لا تغيرها ظروف عابرة طارئة كالتى نراها فى هذه الأيام. ومن الملاحظ أن (مصر) كانت أسبق الدول العربية إلى المجال العالمى وأقدرها عليه، فإذا قلنا إن كل دولة تجد نفسها فى مرحلة تكوين سياستها فى الأسرة الدولية أمام ثلاثة آفاق: الدائرة المحلية، والأفق الإقليمى، والمحيط الدولى، فلعل (مصر) هى الوحيدة بين العرب التى اقتحمت الدائرة العالمية من قبل، وأصبحت من محاورها، مثلما أصبحت العالمية نفسها من محاور العمل المصرى فى المجتمع الدولى. والواقع أن كل الشعوب العربية، وكل القوميين والمثقفين العرب المخلصين، يؤمنون عن يقين بزعامة (مصر) ويبايعونها بلا تردد.. أما إن هذه الزعامة مشكلة إقليمية ومثار صراع، فهذا لم يكن قط إلا موقف الرجعيات الأسرية الحاكمة، والإقطاع السياسى، ومناورات ودسائس النفوذ الأجنبى من ورائهم.. وفى هذا السبيل أطلقوا سلسلة من الادعاءات والاتهامات لا تصمد للمناقشة الموضوعية الهادئة، كما حاولوا أن يختلقوا زعامات اصطناعية مضادة، ولكن دون جدوى كذلك. ومن هذه الادعاءات أن (مصر) أرادت فى السنين الأخيرة أن تفرض زعامتها على العالم العربى.. إنهم بهذا الادعاء يثيرون قضية مزيفة مفتعلة.. فإن دور (مصر) القيادى والريادى فى العالم العربى لم ينقطع أبدا حتى فى الفترات التى كانت فيها الزعامة الشكلية إلى غيرها من البلاد العربية. والزعامة العربية خارج (مصر) فى تلك المراحل لم تكن فى جوهرها إلا مرحلة تجريبية، أو تجربة مرحلية، عابرة وموقوتة.. قل: كانت فترة حضانة! فإن ادعى أحد أيا كان أن (مصر) تريد أن تفرض زعامتها على العالم العربى فلنقل له: إن هذه الزعامة حقيقة واقعة ليست فى حاجة إلى من يفرضها.. وما دامت هى زعامة طبيعية.. فإنها تبقى دائما شرفا لا ندعيه، وتهمة لا ندفعها! ومع أنها زعامة طبيعية، فإن لها مسئولياتها وتبعاتها، ولها أيضا مشاكلها.. فالتاريخ يسجل أن (مصر) كانت ملتقى العرب، ومجمع الأسرة، وأحيانا ملجأ وملاذا وخط دفاع أخيرا عن التراث العربى.. وفى كل الحالات كانت (مصر) تلعب دور المنار للإسلام، ودور المنبر للعروبة.. وهذه هى الزعامة الطبيعية فى العالم العربى.