هذا السؤال يطرحه المخلصون الغيورون على مستقبل هذا البلد منذ سنوات ليل نهار دون جدوى، فمصر اليوم كبيئة علمية ونظام سياسي طارد للعقول وجاذب للعجول، وأقصد أن النظام الحاكم الذي تحول إلى سلطة قمعية كان حريصا من البداية على طرد وتشريد وتحقير العقول الواعية والأدمغة المدركة لدور العلم وأثره كرافعة لتنمية المجتمع وبناء مخزون استراتيجي لتعظيم الإنتاج ومحاربة الفقر والجهل، لقد حورب العلم والمعرفة باعتبارهما أدوات الحاضر والمستقبل وهما مفتاح تحرر الشعوب من رق الاستبداد والطغيان والتخلف والفقر. ويعرف العالمون ببواطن الأمور أنه ليس ثمة فرقا بين المعرفة والتسلح، وأن الدول التي لن تستطع تسليح نفسها لا تقوى على حماية منشآتها الاقتصادية ولن تستطيع توفير الحد الأدنى من الغذاء لأبنائها، لذلك لابد- في رأي قوي الاستعمار والهيمنة الصهيوغربية- من تفكيك آلية العلم والمعرفة في مصر- بؤرة الإشعاع الحضاري ليبقى الشعب أسير الحاجة والعوز([1]). أما الكيفية التي تم بموجبها التفكيك وبأيدي من ؟ فالجواب واضح...أو فاضح لا فرق. إن الوضع الاقتصادي المتردي لمصر الذي ظل لعدة عقود يعتمد على نوع من التوازن الهش بين الحاجة الغذائية ووسائل إشباعها- يؤكد وجود خلل في الإرادة السياسية ومنظومة العمل الجماعي، وهو ما حول المجتمع من حالة الحركة التنموية في أعقاب المد الثوري لثورة 23 يوليو إلى الانفساخ ( وليس الانفتاح ) الاقتصادي ومنه إلى حالة التبعية والكمون والتيبس المزمن تمهيدا للانهيار. ألا نعيش هذه الحالة وهاهي شواهدها ماثلة للعيان رغم الوعود الوردية الكاذبة بالرخاء منذ 30 عاما ؟ لقد حجزت القيادة السياسية المصرية- وبجدارة - مقعد النيام في ذيل قافلة دول العالم الثالث مع أصحاب الأصفار، ويمكن تصنيفها اليوم ضمن المجتمعات البدائية والمتخلفة، وهي المجتمعات التي تستمر في العيش على قيد الحياة أو على حافة الموت، ويكون وجودها كناية عن معركة لا نهائية ضد الجوع ما دامت عاجزة عن تصدير فوائض الإنتاج بسبب تخلفها التقني والحضاري. مصر كما يعرف العالم أجمع لا تنقصها الكفاءات العلمية العالمية الفردية، ولكن ينقصها المناخ العلمي وحرية البحث والإبداع، ينقصها منظومة علمية عريضة تعمل بروح الفريق، وهي حسب الدكتور أحمد زويل " ليس بها قاعدة علمية متماسكة وإن كان بها باحثون على مستوى عالمي "، والقاعدة العلمية لا يمكن بناؤها في ظل انعدام الرغبة السياسية، بل إن القيادة السياسية لهذا البلد متورطة في عملية التجريف المنظم للكفاءات النادرة لدفعها إلى الصمت أو الهرب من جحيم الفقر والتهميش والبطش، وفي هذا الجو الأمني القاتم تتسرب العقول رويدا رويدا، ولا يبقي سوى العجول التي ترعي في أرض المحروسة بحثا عن مصادر الطمع والاستغلال، في أرض يسوسها العجول لا العقول لا مفر من أن يسكنها الفقر والعبيد. استنادا على ما تقدم، لا يخامرني أدني شك في أن التساؤلات المحيرة التي تفطر القلوب تعتصر عقول الملايين من محبي مصر في الداخل والخارج تتناقلها العيون والألسنة وهي : لماذا تتصدر مصر قائمة الدول التي تنزف أدمغتها الشابة كل يوم ؟ ألا تدرك السلطة السياسية أنه لا تنمية بلا إنتاج ؟ وإذا كانت تدرك فلماذا لم تفعل ؟ وإن كانت لا تدرك أو لا تستطيع فلماذا بقيت تلك السلطة حتى اليوم؟ وهل يظن عاقل أن هناك تنمية في بلد بلا علم ولا معرفة ؟ في بلد يقدس الجهالة والأمية([2]). وهل هناك إنتاج في بلد تنمي البلطجة والجهل ؟ يا سادة : في نظام يكافيء الكسول والمنافق والجهول ويعاقب المجد والمكافح والصبور، في نظام يحمى اللصوص ويعلف التيوس حفاظا على العروش في بلاد تطارد العقول والأمان والشرف، لابد أن تستوطن الأمية والجوع ويمرح الجهل والمرض. يا سادة : لا عمل بلا إخلاص ولا إخلاص بلا انتماء وولاء للوطن، ولا انتماء في وطن لا يساوى بين جميع أبنائه ويعمق حق المواطنة، ولا إنتاج بلا توجه وطني واضح من الساسة والمفكرين على أساس من الحق والعدل والحرية، وبمعني آخر لا خير، بل لا خبز في وطن يحكمه الجلادون والسماسرة واللصوص وقطاع الطرق ؟ هل جافيت الحقيقة ؟؟؟. لقد اختارت السلطة السياسية التحالف مع رجال المال الراغبين في تسمين أموالهم وبناء كروشهم في المضاربات والعقارات والاحتكارات والمخدرات والفياجرا والحديد..وفضلت السلطة التعاون مع أعداء الشعب على بناء قاعدة علمية تكنولوجية تلبي الاحتياجات القومية الفعلية. أين مصر الآن من دولة مثل كوريا الجنوبية التي باعت نساؤها شعورهن من أجل اللحاق بركب البحث العلمي لتقدم إنجازات كبري في كثير من الصناعات ومنها صناعة الإنسان الآلي، هنا يكمن الفرق بين إرادة النهضة وإرادة الاستبداد!!! نموذج مدهش آخر قدمته الهند الدولة الأفقر والأكثر سكانا بعد الصين، ولكن قيادتها الوطنية الواعية وعلى رأسها الرئيس العالم / عبد الكلام قدم للقيادات السياسية المغيبة والتائهة في وطننا مثالا رائعا في استثمار العلم حتى صارت عوائد الهند من علمائها في الخارج 21 مليار دولار سنويا، وأصبحت مراكز البحث العلمي الهندية في بنجالور وغيرها أكثر تقدما على مثيلاتها الأمريكية مثل معهد( إم آي تي ) للتكنولوجيا وجامعة كالتك في أمريكا وغيرها. إن قصص نجاح المصريين في الخارج تدحض مزاعم القيادة السياسية -طوال ربع قرن- في عدم قدرة الشعب على النهوض، كما أن نجاح الدول الآسيوية في التنمية ورفع مستوى شعوبها لدليل على أن المشكلة تكمن في النظام السياسي وأثره المحبط على قدرات الشعب المصري، لقد قام قادة كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة والهند وأيرلندا برفع مستوى الثقافة العلمية في بلادهم والمشاركة في أحدث ما قدمه العالم من معارف وتكنولوجيا، بينما انشغل نظامنا السياسي وما زال بسن القوانين لتكبيل الشعب وإجهاض إبداعه ( قانون الطواريء قانون الأحزاب قانون الجمعيات الأهلية وقانون النقابات وقانون الجامعات ) عدة عقود بهدف تثبيت حكمه المطلق وتجهيل الشعب واستنزاف ثروات البلاد ورهنها للدين الخارجي فمن أحق بالحياة والوطن ؟ وعلى من ينبغي الرحيل..العقول أم العجول.؟!!! [email protected]