آنَ الأوانُ أن نترك الحملات المتبادلة بين القوى السياسية، وننصرف إلى البحث عن حلول عملية لمشكلاتنا المزمنة التي تراكمت على مدى ستين عامًا، شهدنا فيها كثيرًا من الهزائم المذلة وبعض الانتصارات المفرحة، وعانينا تعميق الأزمات اليومية والاجتماعية التي يعيشها معظم أبناء الوطن، وانهيار كثير من القيم العليا، بجانب انهيار العُملة المصرية بصورة غير مسبوقة إلا في اليمن السعيد وتركيا – ما قبل أردوغان – والسودان غير السعيد! لعل في مقدمة المشكلات المزمنة موضوع رغيف الخبز الذي تتولى الدولة توفيره للمواطنين مدعوما؛ أي بسعر رمزي أقل من سعره الحقيقي بكثير، ويقتتل الناس يوميًّا في رحلة عذاب بائسة من أجل الحصول على بعضٍ منه، وبعد ذلك يجدونه غير صالح للتناول الآدمي! صار كثير من الميسورين يلجأون إلى شراء الخبز غير المدعوم (الفينو أو الإفرنجي)، أو الخبز الذي يصنعه بعض الأفراد في أفران خاصة، ويباع بسعر يحقق الربح لأصحابه ويبدأ من خمسة وعشرين قرشًا حتى يصل إلى الجنيه. تحاول وزارة التموين المعنية بموضوع الرغيف أن تجد حلولاً للمشكلة عن طريق وضع خطط لتوزيع الرغيف من خلال الأكشاك في المدن، أو الاشتراك مع الموزعين الذين يسلمون كل أسرة عشرة أرغفة في القرى، وفي معظم الأحوال لا يؤكل هذا الخبز لأنه غير مخبوز جيدًا، ويكون مصيره للدواجن أو الحيوانات! مؤخرًا قيل إن هناك اتجاهًا لرفع سعر الخبز البلدي المدعم إلى 10 قروش بدلاً من 5 قروش في الفترة المقبلة، وذلك لرفع جودته وتحقيق هامش ربح مجزٍ لأصحاب المخابز، يأتي ذلك ضمن مقترحات وزير التموين والتجارة الداخلية، التي تتضمن تحرير سعر الدقيق، واعتماد تكلفة إنتاج الخبز البلدي المدعم الجديدة، والنظر في الغرامات على أصحاب المخابز في عام الثورة، وتوزيع الخبز للمنازل. وكان وزير التموين والتجارة الداخلية السابق قد أعلن من قبل عن دراسة رفع سعر الخبز البلدي المدعم إلى 10 قروش بوصفه شريحة تجريبية في العام الحالي، لكنه تراجع عن ذلك. وفي رأيي أن هذه المحاولات غير مجدية وستؤدي إلى مضاعفات غير محمودة. فهناك عدة أمور لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها: منها أن العملة خمسة قروش أو عشرة قروش لا وجود لها في أيدي الناس، أي لا يتعاملون بها، بل إن العملة فئة خمسة وعشرين قرشًا نادرة وقليلة الوجود، ثم إن عملة الخمسين قرشًا في طريقها إلى الاختفاء أيضًا، وأقصى ما تستطيع شراءه كيس شيبسي أو مصاصة للأطفال، وصار الجنيه الذي كان يسمى قبل سنوات "ملطوشًا" لا يساوي شيئًا ولعله الآن يسمى "مفعوصًا" . لم تعد له قيمة ولم يعد يشتري ما كان يشتريه "قرش تعريفة" قبل ثلاثين عامًا. ومنها أن كثيرًا من أصحاب المخابز يحرصون على أكبر إفادة من الدعم الحكومي بتخزين الدقيق ثم بيعه في السوق السوداء بأسعار مرتفعة ودون عناء في خبزه، وكثير منهم حريص على توفير الوقود بعدم الخبيز الجيد ليكره الناس أنفسهم حين لا يجدوا خبزًا يؤكل أو له طعم . ثم هناك يوميًّا حملات تعلن عن القبض على مهربين لعشرات الأطنان من الدقيق المدعوم في طريقها إلى تجار الممنوع، حيث يبيعونه لمربي الدواجن أو الحيوانات أو من يصنعون خبزًا خاصًّا يبيعونه بأسعار مرتفعة . ومنها أن وزارة التموين تحولت إلى وزارة فاشلة على مدى العقود الماضية حيث صارت قوة لصوص الدعم والمنحرفين أقوى منها وأكبر، سواء بالرشوة أو بالبلطجة، أو باليأس من الإصلاح . لقد أصبحت مهمة التموين هامشية ومحصورة في ضبط مخالفة تسعيرة أو سلعة انتهت صلاحيتها في دكان صغير أو لدى بائع جوال في أحد الأسواق! ومنها أن الدولة حتى عام 2010 ؛ تخصص نسبة 25% من ميزانيتها للدعم، وأن الفقراء المحتاجين لدعم السلع الغذائية وفقاً لبعض الإحصائيات؛ لا يحصلون إلا على نسبة 20% من الدعم المستحق، والسؤال: أين تذهب نسبة ال 80% المتبقية ؟ الجواب مفهوم ومعروف! في حوار ل "بوابة الأهرام" 19-3-2012 مع مسعود أحمد مدير صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، وكان يزور مصر وقتها لعقد نقاشات حول قرض قيمته 3,2 مليار دولار يمنح لمصر من الصندوق، قال: إن "مصر توجه 16 مليار دولار سنويًّا لدعم الطاقة في مصر، وإن 90 ٪ من نسبة هذا المبلغ يوجه لل 20 ٪ الأكثر ثراءً في مصر، وأنه على مصر أن تتخذ القرار المناسب كما تراه لحل هذه المشكلة، من أجل دفع الاقتصاد الكلي في مصر للتوازن".. لقد سألت بعض المختصين حول التكلفة الحقيقية للرغيف البلدي المدعوم، فعلمت أنها تتراوح بين 19 إلى 25 قرشًا، أي أن الدولة تدفع ما يقرب من جنيهين يوميًّا دعمًا للأسرة المشتركة في مشروع توزيع الخبز اليومي وتحصل على عشرة أرغفة، وهو ما يعني أنها تحصل من دعم الخبز على قرابة ستين جنيهًا في الشهر، وهو المبلغ الذي تدفعه تقريبًا الأسرة المتوسطة ثمنًا للمواد التموينية التي تحصل عليها ببطاقة التموين شهريًّا .. أتصور لو أن الدولة منحت مواد البطاقة التموينية مجانًا مقابل تحرير سعر الرغيف وسعر الدقيق، وأعلنت ذلك على الناس، فإنه سيحقق عددًا من الأهداف المهمة: منها القبول بحل عملي يشعر الناس أنهم يحصلون على نصيبهم بالعدل، ومنها الحصول على رغيف يليق بالآدميين بسعره الحقيقي، ومنها قطع الطريق على لصوص الدعم، ومنها توفير وقت الناس الذين يقفون في طوابير الحصول على الخبز لصالح العمل والإنتاج، ومنها أن الفلاحين سيعودون لاستخدام أفران القش والحطب مرة أخرى لتوفير احتياجاتهم من الخبز، ومنها أن المخابز ستعمل على البحث عن زبائن بدلاً من طردهم، وستحسن مخبوزاتها، بدلاً من تشويهها . دعم السلع الغذائية والوقود مشكلته سهلة إذا حصل كل فرد على نصيبه نقدًا أو نظير مقابل مادي ملموس، ليشتري ما يريد وفقًا لما يملكه، سواء كان بنزينًا أو سولارًا أو بوتاجازًا أو غير ذلك. أما الدعم الذي يجب أن يتوقف الناس عنده فهو دعم الفلاح المصري المسكين زراعيًّا، وهذا له حديث يطول!