أثار مقالي (الوسطية التي ضيقنا) ردود أفعال، ما بين مستغرب مما ذكرت، وما بين من يسألني إذا كنت واثقا من نقولي التي نقلت والتي تفيد أن مشايخ السلفية الذين ذكرتهم: ابن باز وابن العثيمين والألباني رحمهم الله، لا يختلفون عن: حسن البنا والقرضاوي والغزالي والسيد سابق في تيسيرهم، وان حصر الوسطية في فصيل إسلامي دون آخر ليس صوابا، بل هو خطأ علمي، وأنا أؤكد أن كل ما ذكرته من مواقف بين الطرفين كله بوثائق، ولكن طبيعة كتابة المقالات تختلف عن طبيعة كتابة الدراسة العلمية، كما خالفني البعض في رأيي: وأن علماء السلفية يميلون للتشدد، ومن القراء من أعجب بالمقال وما انتهى إليه من نتيجة، حيث إنه يصب في صالح جمع الشمل، وعدم التفرق والتشرذم، والتعرف على المدارس الإسلامية والفقهية عن دراسة وكثب، لا عن سماع ونقول مشوهة. ولذا طلب مني بعض الإخوة الذين أعتز برأيهم أن أزيد الأمر وضوحا، وأن أكتب مقالا أوضح فيه الوسطية التي جاء بها الإسلام، والتي نتمنى انتشارها بين الناس. إن الوسطية نهج وليست أفكارا يطلقها علماء، فننبهر بها، ونتبناها، الوسطية سلوك يتمثل في أخلاقيات علمائها، وفي منهج يجمع الأمة، وليس في تفصيلات نختلف فيها، وتختلف فيها الآراء، وهذا التصنيف الذي نراه، بوصف فئة دون أخرى بالوسطية، ليس صحيحا، واعتماد المصنفين على التيسير والتشديد في الفتاوى والفقه ليس صوابا أبدا، ودليلي على ذلك: هل صحابة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الوسطية أم من غيرها؟ الإجابة: نعم بلا شك، كلهم وسطيون، فهم تربية نبي الوسطية، وأبناء دين الوسطية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، إذن فسوف أذكر نصا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق ولم يصنف بين من فهم فهما يعتمد على المقاصد وروح النصوص، وبين من فهم بظاهر النص، وذلك في حادثة بني قريظة الشهيرة، وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" فلما أدركهم العصر في الطريق، صلت طائفة، وأخرت أخرى إلى أن وصلت إلى بني قريظة، أما الفئة الأولى: ففهموا روح النص، وأعملوا ما سمي فيما بعد بفقه المقاصد، وقالوا: إن الهدف من قول النبي صلى الله عليه وسلم هو التشجيع على الإسراع في المسير، والفريق الآخر الذي أخذ بظاهر النص، قالوا: لقد طلب صلى الله عليه وسلم منا أن نصلي في بني قريظة، ونحن امتثالا لذلك لن نصلي إلا هناك، مما جعل ابن القيم يعقب على ذلك بقوله: أما الفريق الأول فقد كان سلفا لأهل المقاصد، وأما الفريق الآخر فقد كانوا سلفا لآهل الظاهر، الشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على فريق منهما، بل لم ينف الوسطية عن فصيل دون الآخر، في قضية من أهم قضايا الفهم لروح النص وظاهره. كما أن الوسطية سلوك، فما معنى أن يطنطن العالم بمبادئ، ثم نراه عند السلوك العلمي والتطبيق العملي يضيق بالرأي الآخر، أو يلغيه أو يصادره، إن العالم الوسطي هو الذي لا يتعصب لرأي دون الآخر، ولا يصادر رأيا لأنه خالفه في الوجهة، وبخاصة إذا كانت في يد العالم سلطة مصادرة أي فكر، هنا تبدو وسطية العالم من عدمها، وهذا ما أردت إثباته، فالعلماء الذين ظن من راسلوني معترضين على وصفهم بالوسطية كالشيخ ابن باز وابن العثيمين والألباني، وأنهم متشددون وليسوا وسطيين، للأسف يجهل كثير من الباحثين كثيرا من مواقفهم، ومن رؤاهم الفكرية، فابن باز مثلا رحمه الله، له مواقف تجعله من رواد الوسطية في سلوكه وعلمه، ويكفي سلوكه في عدم ضيقه بالرأي الآخر في بلد خليجي يتهم بالتعصب للوهابية، وأذكر هنا موقفين مهمين في ذلك للرجل رحمه الله: من ذلك: موقفه من كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) للشيخ يوسف القرضاوي، حيث إن وزارة الإعلام السعودية عرضت عليه الكتاب مستفسرة عن: هل يفسح له في دخول الكتاب للمملكة أو لا يفسح؟ وأرفقوا مع الطلب ثمانية ملاحظات للمشايخ هناك، فما كان من الشيخ ابن باز إلا أن أرسل رسالة للشيخ القرضاوي يخبره باعتراضه والمشايخ على هذه المسائل الخلافية، وأن عليه أن يراجع نفسه فيها عله يعود عنها، فنفى الشيخ القرضاوي تراجعه، وأنه على رأيه، فهل منع ابن باز كتاب القرضاوي لعلة خلافه له في قضايا معروف موقف ابن باز منها جيدا، فهي قضية النقاب والغناء والشطرنج، إلى آخر القضايا المعروفة في هذا الشأن، ومع ذلك أمر الشيخ ابن باز بإعطاء الفسح (أي السماح بالنشر) للكتاب، ورفض مطالبة بعض المشايخ بمنعه. الموقف الآخر للشيخ ابن باز رحمه الله، فقد كان يعتمد في تقاريره على من يقرأ له، فالشيخ كان كفيفا رحمه الله، إلا أن الله نور بصيرة الرجل، فقد أعطاه بعض طلبة العلم تصورا شائها عن الشيخ حسن أيوب، وكتابه (تبسيط العقائد الإسلامية) فكتب خطابا بمنع الكتاب من التداول في السعودية، ونما ذلك الأمر للشيخ حسن أيوب، فذهب وفي يده الكتاب وسلم على الشيخ ابن باز في الحرم المدني، وقال له: أعرفك بنفس أنا حسن أيوب، وهذا كتابي الذي صور لك بعض الشباب تصويرا خاطئا عنه، فهل لديك من الوقت أقرأ عليك الكتاب بنفسي، فقرأ الكتاب عليه، فقال له الشيخ حسن أيوب: هل في الكتاب ما يدل على فساد في عقيدتي؟ قال الشيخ ابن باز: لا، فقال الشيخ حسن: وماذا أنت فاعل؟ قال: كما أصدرت كتابا يسيء لكتابك بالمنع، فورا سأصدر كتابا آخر أصحح فيه الخطأ الذي وقعت فيه! وهناك مواقف كثيرة لا أحصيها، فيا أيها السادة القراء والمخالفون: الوسطية كما قلت نهج، وسلوك، وليست تفاصيل في مسائل فرعية، يسع المسلم أن يكون أمامه أكثر من رأي فيها، ولا يصح بعدئذ أن نصنف الآراء التي تحلو لنا بالوسطية، وننعت غيرها بالمتشددة، والمتطرفة، والمتنطعة، ما دامت قد استندت إلى دليل، وما دامت هذه الرؤى تحتمل الاختلاف، وإلا سنكون نحن أكثر تطرفا وتشددا، فكما نصف المتشدد بذلك، فهو أيضا سيصف المخالف بالتسيب، وتضيع الحقيقة بين الطرفين، هذا ما أردت توضيحه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. [email protected]