تردد في الفترة الأخيرة مصطلح الوسطية، وكلما حدث حادث إرهابي، أو لوحظ تطرف في الفكر في بلدة عربية إسلامية تردد على الألسنة الدعوة إلى الوسطية وتبنيها منهجا، وهذا كله أمر جيد لا إنكار لنا عليه. ولكن الذي أصبح ملفتا للنظر ويحتاج إلى تصويب في أذهان كثير من الشباب هو حصر هذا المصطلح أو هذا الوصف (الوسطية) على فئة من الإسلاميين دون الأخرى، بل وزاد الأمر خطأ فحصرناه في فئة من العلماء دون غيرهم، فقد شاع أن دعاة الوسطية وفقهاءها في العصر الحديث، هم: حسن البنا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسيد سابق ومن على نهجهم، والعلة في هذا التصنيف: أنهم ميسرون في فتاويهم، وأنهم يميلون إلى التيسير على الناس سواء في ممارستهم للإسلام، أو في تأديتهم للدعوة. وهذا التصنيف خطأ محض، فالوسطية وصف عام للأمة الإسلامية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة: 143، ومن موافقات الآية: أنها تتحدث عن الوسطية وجاءت في وسط سورة البقرة تماما، فهي الآية رقم: 143، وسورة البقرة: 286 آية. فهذا الوصف وصف عام للأمة، وليس من الإنصاف حصره في فئة من المسلمين دون فئة، ولا جماعة دون جماعة، ولا علماء دون غيرهم. وما يفهمه هؤلاء المصنفون أو الحاصرون للوسطية في فئة معينة وعلماء معينين كالبنا والغزالي والقرضاوي ومدرستهم فقط، ورمي غيرهم خاصة من مدرسة السلفية بأنهم ليسوا وسطيين، وأنهم متشددون، ناتج عن فهم خاطئ لقضية التيسير والتشديد في قضايا الفقه، وهذا لعله أبرز عامل مؤثر في هذا التصنيف، إنني باستقرائي لكل ما وقعت عيني عليه من فكر لهؤلاء جميعا، ولعلماء الدعوة السلفية من أمثال الشيخ: ابن باز، وابن عثيمين، والألباني وغيرهم، اكتشفت بإنصاف: أن آباء هؤلاء العلماء وأمهاتهم الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، إذا لاح لهم هذا الدليل اتبعوه دون مراعاة لأحد، كائنا من كان. وسوف أعقد مقارنة بسيطة بين المدرستين: مدرسة الإخوان ومدرسة السلفية متمثلة في العلماء الذين ذكرتهم، لأوضح للقارئ أن حصر الوسطية في مدرسة دون الأخرى خطأ فاحش، وأن مسألة الإباحة والتحريم مسألة ليست ناتجة عن حب للإباحة أو ولع بالتحريم. فقد أفتى كل علماء السلفية بوجوب النقاب، ولم يقل الشيخ الألباني بوجوبه، ورأيه: أن النقاب ليس واجبا. وقال كل أو معظم علماء الإخوان بعدم وجوب النقاب، وأفتى حسن البنا ومال في رأيه إلى وجوب النقاب!! والشيخ العلامة ابن باز رحمه الله يفتي بجواز التورُّق (أي أن يذهب الرجل للبنك ليشتري سيارة مثلا بمائة ألف، على أقساط، ثم يبيع السيارة لنفس البنك أو لغيره، ليحصل على المال، فهو يريد المال (الورق) لا السيارة) هذه العملية الفقهية أجازه الشيخ ابن باز، وحرمها الشيخ القرضاوي، وشدد في حرمتها. الشيخ ابن باز رحمه الله يفتي بجواز الصلح مع إسرائيل، والشيخ الغزالي والقرضاوي وغيرهما يفتون بعكس ذلك تماما. وأفتى معظم علماء السلفية بتحريم التصوير الفوتوغرافي، وأفتى معظم علماء الإخوان بإجازته، ووافقهم في الإباحة الشيخ ابن عثيمين الرمز السلفي المعروف رحمه الله! وذهب الشيخ الألباني إلى أنه لا زكاة في عروض التجارة، وأفتى باقي العلماء بأن في عروض التجارة زكاة. وأفتى الشيخ سيد سابق والقرضاوي قبل كتابه فقه الطهارة ومعظم علماء الإخوان في كتاباتهم الفقهية بعدم جواز لمس المصحف للجنب، أو دخول المسجد للحائض، وأفتى الشيخ الألباني بجواز ذلك كله، من لمس المصحف للجنب، أو دخول الحائض للمسجد، وتبنى رأيه فيما بعد الشيخ القرضاوي!! الشيخ القرضاوي يحرم جوائز السحب الكبرى التي تجريها الشركات، وهناك من مشايخ الدعوة السلفية من يجيز ذلك! إنني تعمدت أن أذكر القضايا التي شدّد فيها علماء الإخوان، ويسر فيها علماء السلفية، لأبرهن على أن الوسطية منهج أمة، وليس فصيلا خاصا من فصائل الأمة أو الصحوة الإسلامية، وذلك ليعلم أتباع المدرستين: أنه ما من عالم منهم ابتغى بفتواه غير وجه الله، وأنه ما قال ما قال عن هوى، وحب للتشدد أو التيسير، ولكنه الحق الذي أحق أن يتبع. واعتقادي أن هذا التصور نتج عن سوء فهم لهذه المدارس الفقهية والدعوية، وناتج عن قصور وضعف في قراءة هذا المدارس، إن كثيرا من قراء ودارسي المدارس الإسلامية يكتفون بقراءة كتاب أو رسالة، أو أخذ رأي عن سماع من بعض طلبة العلم، وهذا عور في العقل، وعور في الفكر، وعمى في الحكم. بل إنني أقول: إن من يحصر الوسطية في فصيل دون آخر، ليس وسطيا، لأن الوسطية أن يكون عادلا في حكمه، وعادلا في تصوره، ومعتدلا في كل ما يصدر عنه من أحكام. أفيحق بعد ذلك لأحد أن يظلم الوسطية أو يحصرها؟!! [email protected]