دخلت العلاقات المصرية الفرنسية مرحلة جديدة فى ظل عاملين رئيسيين.. فمصر شهدت ثورة الخامس والعشرين من يناير, فيما دشنت فرنسا عهدة رئاسية فى ظل الاشتراكيين مع نجاح مرشحهم فرانسوا هولاند فى الانتخابات الرئاسية، فى مواجهة الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزى بأطروحاته المعادية للإسلام والمسلمين الفرنسيين.. وفى كل الأحوال بات على مصر أن تعيد النظر فى أساس العلاقة التى بناها الرئيس المخلوع حسنى مبارك.. فالقاهرة وباريس تدركان محورية الدور الذى تلعبه كل منهما.. الأولى فى محيطها العربى الإسلامى، والثانية فى محيطها الأوروبى الدولى.. ولهذا الواقع ترجمة فعلية على الأرض من واقع عدد اللقاءات والاتصالات الهاتفية الرئاسية بين قصرى العروبة والإليزيه على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والتى بلغ متوسطها فى العام الواحد نحو ثلاث مناسبات. والثابت أن الأوروبيين، وفى مقدمتهم الفرنسيون، نجحوا فى تمرير الكثير من السياسات والقرارات التى قبل بها أو رضخ لها صانع القرار المصرى، مثل الانفراد بمصر ثم بقية الدول العربية فى التوقيع فرادى على اتفاقية الشراكة الأوروبية.. وكانت المحصلة مخالفة للواقع التاريخى.. إذ تمضى المفوضية الأوروبية قدمًا فى التحدث، واتخاذ القرارات باسم الاتحاد الأوروبى, بينما تتهافت مصر والعرب على هذا المسار منفردين لتأتى النتيجة أقل بكثير مما لو كان المفاوض مفاوضًا عربيًا واحدًا يتحدث باسم كل العرب. مصر دفعت والحال هكذا ثمنًا غاليًا جراء رؤية إستراتجية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة تتجاهل البعد العربى وأهميته القصوى لمصر وللعرب على حد سواء.. وبلغ التراجع مدى أبعد عندما اندفع حسنى مبارك فى نفس القاطرة السياسية التى زج به فيها نيكولا ساركوزى الذى يصف نفسه ب "صديق إسرائيل".. هنا كان (الاتحاد من أجل المتوسط) برئاسة مصر وفرنسا، والذى تولى رئاسة دورات انعقاده تبادليًا كل من مبارك وساركوزى. ومنذ البدء ظهر واضحاً أن ساركوزى يهدف إلى إدماج إسرائيل فى محيطها العربى ليلتف على ما تبقى من المقاطعة أو رفض التطبيع من النافذة، بعد أن فشلت محاولات كثيرة تستهدف الولوج من الباب.. هذا المشروع الذى يعانى منذ تأسيسه حال الارتباك، ويستجدى من الفرقاء ربما إعطاءه نفسًا جديدًا, تفيد المؤشرات الأولية والمزاج العام فى الشارع المصرى أن الرئيس مرسى لن يكون مستعدًا لتمريره من جديد على حساب مصر والعرب. ساركوزى الذى مثَل ابتعادًا عن السياسة الديجولية، التى حافظ على بعض بقاياها الرئيس الأسبق جاك شيراك, كان مواليًا لإسرائيل لدرجة مشاركته عبر سلاح البحرية الفرنسية فى حصار غزة.. وانحياز الرئيس السابق لصالح إسرائيل فى مواقف عديدة, تجلى على نحو أضاع الكثير من الرصيد الذى صنعه فى العالم العربى سلفه جاك شيراك قبل وأثناء الحرب الأمريكية على العراق.. لكنّ الاشتراكيين بدورهم يعدون حلفاء تاريخيين لقوى إسرائيلية مهمة، ومن بين أشهر رموزها حزب العمل وشخصيته المحورية الرئيس شيمون بيريز.. وحزب العمل من أهم أعضاء رابطة الاشتراكية الدولية التى يحتفظ الحزب الاشتراكى الفرنسى بجزء مؤثر فى عملية صناعة القرار بداخلها، وهى نفس الرابطة التى أراد الالتحاق بها فى وقت متأخر الحزب الوطنى قبل انهياره مع قيام الثورة المصرية. وبمقدار إدراك الرئيس المصرى لدور القاهرة وثوابتها التاريخية, بمقدار ما يمكنه أن يؤثر فى تحريك صانع القرار الفرنسى باتجاه قضايانا المحلية والإقليمية.. وهناك العديد من النماذج فى مجال العلاقات الثنائية التى يمكن الحديث عنها فى هذا السياق.. على الصعيد الاقتصادى تأتى فرنسا كسادس شريك اقتصادى مع تأرجح ترتيبها بين الثانى والرابع فى مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى مصر.. ويعد مترو أنفاق القاهرة من أهم علامات تلك العلاقة.. لكن الرئيس أمامه فيما يبدو مهمة أكبر من ذلك تتعلق بالطاقة النووية السلمية التى تأتى فرنسا فى القلب منها.. إذ تعد الشركة الفرنسية (أريفا) أكبر منتج فى العالم للمحطات النووية.. وقد يعد هذا الملف فى ظل إرادة مصرية حقيقية بعيدًا عن المجاملات والكلمات المعسولة, من أهم ما يمكن أن تتحرك باتجاهه القيادة المصرية المنتخبة.. ولم يعد أمام القاهرة المزيد من الوقت لتضيعه فى ظل ملامح أزمة طاقة قائمة وقادمة لكى تتحرك هذه المرة بجدية وبوعى لاستثمار العلاقات بين البلدين ولصالح الطرفين بعيدًا عن إرضاء إسرائيل أو عدم إغضاب الولاياتالمتحدة. الرئيس المصرى القادم أيضًا مطالب بالتعامل مع فرنسا، من حيث ثنائية الموقع والالتزام، ففرنسا لها اليوم واقع ثنائى نتيجة انتمائها للاتحاد الأوروبى.. وتمثل فرنسا ومعها ألمانيا القاطرة المحركة للاتحاد الأوروبى.. لذا من الضرورى التعامل مع فرنسا ومن ثم أوروبا بالقدر الذى يزيد من دورها الإقليمى على الصعيد الفلسطينى، بما يعزز مصالحنا، وبعيدًا عن مقولة إن 99% من أوراق الحل بيد الولاياتالمتحدة.. مصر التى تتعامل مع الآخر وهى واعية تمامًا لدورها العربى, لابد أن تسعى تحت قيادة الرئيس محمد مرسى لتنويع مراكز الثقل السياسى، وكذلك تنويع مصادر السلاح.. والفرنسيون لديهم الكثير مما يمكن أن يقدموه على صعيد صادرات السلاح فى حال شهدوا جدية من جانب مصر ما بعد الثورة, تعززها الرغبة فى تحقيق الاستقلالية السياسية والاقتصادية وكذلك العسكرية. [email protected]