حديث اليوم في موضوع خطير يطرح بين الفينة والأخرى، فتشتعل النار وتخلف وراءها كوارث لا ينفع التمويه والتعمية في إخفائها، لكنها تتجمع وتتراكم وتكبر مثل كرة الثلج، وكأنها تشتعل كاللهب في الهشيم. نخوض في الموضوع الشائك والحساس، الذي يثير لغطاً كبيراً وفتنة رهيبة ومكايد كثيرة، تتداخل فيها أصابع الفتنة من الداخل، وتحريض العداء من الخارج، ونقف جميعا تجاهها عاجزين أو أشبه بالعاجزين، إذن فمن قال إن مثل هذه الموضوعات الحساسة والشائكة، تعالج بالدفن والكتمان والتمويه والتعمية، فإنما ينادي بالتضليل طريقا لكسر ظهر الأوطان عبر الفتن. إننا نؤمن دائما بأن طريق المعالجة يبدأ بالمناقشة الصريحة والمكاشفة الكاملة، وإجراء الجراحات الكبيرة إنقاذا للمريض من موت محقق إن ترك على ما هو فيه، من داء يجري حقنه بمزيد من الميكروبات أحيانا، أو بالمسكنات أحيانا أخرى. علينا أن نعيد فتح الملف الملغوم الذي يهدد فعلا بخطر محدق على الوطن والمواطنين، ملف الفتنة التي تهدد الوحدة الوطنية وحقوق المواطنة وإطلاق الحريات العامة للجميع دون تمييز، حتى نواجه مخططات التقسيم على أسس دينية وطائفية وعرقية، على غرار ما يجري الآن في أكثر من دولة عربية، وفي حديثنا اليوم نبدأ أولا بنموذج ما يجري في مصر، في ظل حدثين مهمين ووسط مناخ يسوده الشحن والتوتر، وربما التربص والتحريض أيضا، يقف وراءه مستفيدون ومستغلون من الداخل كما من الخارج، ولكل أهدافه ومراميه. ونعني بالحدثين أولا ما ينشر بكثافة عن “مؤتمر الأقباط المصريين في الخارج” المقرر عقده في العاصمة الأمريكيةواشنطن ما بين السادس عشر والثامن عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، بدعوى استعادة حقوق الأقباط المضطهدين في مصر.. وثانياً ردود الفعل المتتالية على هذا المؤتمر القبطي، التي حدثت داخل مصر ومن بينها ما نشر أيضا عن وثيقة لعدد من الدعاة والمثقفين المسلمين للرد عليه، ودعوة الناس للتجمع حولها “دفاعا عن إسلام مصر”، ثم اتساع ردود الأفعال وصولا للأحداث المؤسفة حول كنيسة مارجرجس بالإسكندرية، التي سقط فيها قتلى وجرحى، وما تردد عن توقيت إشعالها الآن في ظل حملات الدعاية الانتخابية الوشيكة. ثمة خلفيات كبيرة تسبق الحدثين بالطبع على مدى العقود الأخيرة، شهدت احتقانا معروفا بين فئات من مسلمي مصر ومسيحييها، ابتداء من أحداث الفتنة الطائفية في السبعينات وصدامات المرج والزاوية الحمراء وقرى ومدن الصعيد، ثم مؤخرا أحداث الكشح وحكاية وفاء قسطنطين وحملات التنصير أو الأسلمة، وصولا للمظاهرات حول كنيسة الإسكندرية، وسط مناخ من الحشد والتعبئة على الطرفين، وخصوصا من جانب الخطاب الديني المتشدد ومن بعض الأطراف المتطرفة، سواء في الجانب الإسلامي أم الجانب المسيحي.. ولا فائدة من الإنكار لأن أصل الداء هنا في الداخل. * أولا: مؤتمر واشنطن لأقباط المهجر: بعيدا عن التخوين أو التهويل، وعن التهوين أو اصطناع البطولات الدينية أو حتى الوطنية، لم يفاجأ كثيرون من المتابعين، بحكاية مؤتمرات وحملات قلة من أقباط المهجر، تتحرك وتكثف حملاتها الدعائية، لتدويل قضية اضطهاد المسيحيين في مصر، وبالتالي جاءت الدعوة لانعقاد مؤتمر ضخم في إحدى قاعات الكونجرس الأمريكي فيما بين 16 و18 نوفمبر/ تشرين الثاني ،2005 تحت رعاية “بيت الحرية فريدوم هاوس” المنظمة الأمريكية الشهيرة، وبقيادة ثلاثة تيارات مسيحية مصرية مهاجرة يمثلها عدلي أبادير وموريس صادق ومايكل منير، رغم ما بينهم من اختلافات. ولا نزال نؤكد أن الداء في أجسادنا إن كنا نتعامى عنه ونحاول إخفاءه، فالخارج لا يفعل إلا النقيض سواء بعقلية المؤامرة، أو بمنهج التعاطف المسيحي المسيحي، مقابل الحملة المعادية للإسلام والمسلمين في الغرب بعد أحداث سبتمبر/ ايلول ،2001 بل وفي وجه تطرف بعض الجماعات الإسلامية بخطابها المتطرف والمتعصب والعنيف. * ثانياً: لا شك أن الترويج الواسع لمؤتمر الأقباط في واشنطن، استفز عناصر كثيرة من مسلمي مصر، وجدت أن المطالب التي يطرحها هذا المؤتمر استنادا إلى خلفية المؤتمر السابق في زيورخ تحديدا، إنما هي اعتداء على الإسلام في مصر، ومن ثم بدأت البيانات والتحركات المضادة، على غرار البيان الذي أذاعه على عجل بعض رجال الدين والمفكرين المسلمين قبل أيام، وهي تحركات ستتصاعد مع قرب انعقاد مؤتمر واشنطن وبعده، بحجة الدفاع عن الإسلام، والتحذير من جانب هؤلاء “جبهة العلماء والمثقفين لحماية الشريعة” لكل من يحاول إلغاء نص الدستور في مادته الثانية، على أن الإسلام دين الدولة وان الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. باعتبار “أن محاولة الإلغاء المدفوعة بضغوط أجنبية تمثل خطا أحمر وخطأ فادحا يؤدي تجاوزه إلى خرق الإجماع الوطني ويهدد السلم الاجتماعي” في دولة أغلبيتها الساحقة من المسلمين، تتعايش بسلام عبر القرون الطويلة مع أشقاء من المسيحيين، لا تزيد نسبتهم على 10 إلى 12% وفق التقديرات المسيحية المصرية، وتنقص إلى حدود 5.7% طبقا للأرقام الرسمية، منهم نحو المليون ونصف المليون هاجروا إلى الخارج من استراليا شرقا إلى أمريكا غربا. وأمام هذا الاستقطاب المتزايد والشحن الطائفي الخطير، يصبح تجاهل الاعتراف بوجود مشاكل خطأ تاريخيا، يستوجب ليس فقط سرعة تدخل “الدولة المدنية بقانونها النافذ” وإنما يستوجب أيضا تحركا للمجتمع المدني الذي يضم المسلمين والمسيحيين في نسيج موحد، لإنارة الجميع بالمخاطر المحدقة وإشاعة روح التسامح والتعايش والعيش المشترك، بالاستنارة وإحياء الروح الوطنية وفق قاعدة حقوق المواطنة للجميع دون تمييز ولا تفرقة. وبقدر خطورة الاتهام الذي يلقى صداه الواسع في الغرب عموما، وفي أمريكا خصوصا، يأتي انعقاد مؤتمر أقباط المهجر في واشنطن، ليطرح مطالب ويعرض مشكلات يرى أنها ملحة، تحتاج لضغوط أمريكية على الدولة المصرية الآن وفورا، وسط موجات الضغوط الخارجية المتصاعدة.. والفاعلة غالبا استغلالا لمناخ دولي يحبذ ذلك، تحت شعار حماية حقوق الأقليات والحريات الدينية وحقوق الإنسان، وبصرف النظر عن مدى مصداقية هذه المطالب والضغوط، فمن الشجاعة أن نعترف، كما سبق أن كتبنا وكتب غيرنا، بأن هناك مشكلات للمسيحيين في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية، يجب حلها على أرض الوطن، وفق قاعدة حقوق المواطنة للجميع في ظل إطلاق الحريات العامة جميعا وللجميع دون تفرقة. وحين نعود مثلا إلى مطالب المسيحيين المصريين ومشكلاتهم، التي طرحوها في الداخل من قبل بطرق مباشرة علنية أو بطرق غير مباشرة، نجد أن صداها هو الذي صاغ مناقشات ونتائج مؤتمر زيوريخ في العام الماضي، وأعلن أنها ستكون كلها على جدول أعمال مؤتمر واشنطن في العالم الحالي. وملخص قرارات مؤتمر زيورخ تركز على الآتي: أ تخصيص كوتة للمسيحيين بنسبة 15% في البرلمان والمجالس المنتخبة والمناصب الرئاسية. ب إعلان مصر دولة علمانية وإلغاء مواد الدستور التي تنص على دين الدولة والشريعة الإسلامية. ج وضع حلول نهائية لبناء الكنائس وإلغاء الخط الهمايوني نهائيا. د تمثيل أوسع للمسيحيين في قيادة الدولة ومناصبها. وهي قرارات تستند إلى مقولات شائعة، من بينها أن هناك اضطهادا للمسيحيين في مصر باعتبارهم “أقلية دينية” مهمشة ومعزولة ومحرومة من حقوقها الأساسية، وأن هناك تضييقا على ممارسة شعائرهم بحرية، وأن هناك حرما لهم من الوظائف العليا والقيادية في مؤسسات الدولة والوزارات والجامعات والمحافظات، إضافة إلى حرمانهم من الوصول إلى البرلمان بنسبة معقولة، الأمر الذي يؤدي إلى الغضب والانكسار والسلبية والمقاطعة والأزمات المستمرة، سواء على مستوى العلاقات بين الكنيسة والدولة، أو بين المواطنين أنفسهم، تغذيها أحداث الفتنة الطائفية والمناخ التحريضي والمتعصب، خصوصا من التيارات الإسلامية المتطرفة من ناحية، ورد الفعل التعصبي والمتطرف أيضا من جانب المسيحيين وبعض الكنائس والمدارس الدينية المختلفة. فإذا ما بدأنا بالاعتراف بوجود المشكلات، يجب أن نضع لها الحلول الجذرية بالعدل الناجز، وبقوة وسلطة الدولة المدنية، وبوعي واستنارة نابعة من القلب والعقل، وقائمة على الحوار والجدل بالتي هي أحسن، ولا نعتقد أن موائد الوحدة الوطنية والتصريحات العاطفية من القيادات المختلفة، وحتى البيان المشترك الصادر يوم الجمعة الماضي بتوقيع مشترك من الإمام الأكبر شيخ الأزهر وقداسة البابا، على رغم أهميته وريادته، يكفي لحل المشكلات القائمة وإنهاء حالة الاحتقان والتحريض والإثارة المتعمدة وافتعال الأزمات في الداخل لتصديرها إلى الخارج، حيث تختلف الأهداف والمصالح والسياسات الراغبة في كسر ظهر الأوطان. والحوار موصول والمناقشة مفتوحة، بحثا عن أرضية مشتركة متعايشة في حرية لأبناء الوطن الواحد، بعيدا بقدر الإمكان عن استغلال الضغوط الأجنبية الهاجمة بقوة. -------- صحيفة الخليج الاماراتية في 26 -10 -2005