الطريقة البشعة التي ارتكب بها السفاح والإرهابي الاسترالي مقتلته الجماعية في مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش بنيوزيلندا، ليست جديدة أو طارئة. الفرق أنها تأتي في وقت تكاتفت على المسلمين، الأمم وافتراءات الإعلام بما فيه إعلام محسوب على بني جلدتنا، بدعوى أنهم منبع الإرهاب الذي ينبغي تجفيفه بالقوة وبكل الإمكانيات اللازمة وغير اللازمة. بسبب جرائم تنظيم داعش التي ارتكب أكثرها ضد المسلمين أنفسهم، نسي العالم المتحضر أن المسلمين كانوا الأكثر استهدافا بالإرهاب خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وأن حملات الكراهية في الغرب وأحقاد اليمين المتطرف، والمتشددين من الأديان والعقائد الأخرى، بلغت ضدهم حدا غير مسبوق في التاريخ. عندما كنت أغطي حرب البوسنة في أوائل التسعينيات رأيت أحد المساجد مليئا بالجثث المتراصة بعد أن أعمل فيهم المسلحون الصرب رصاصهم، ولم يبق من المسجد سوى ساعة معلقة على الحائط المجاور لمنبر الإمام تعطلت عند ساعة الهجوم، وبقايا مصاحف محروقة تم تدنيسها بحرقة وغل بالغين. وبينما كنت أخرج من بين الجثث المتراصة المستلقية على وجوهها أو في وضع أقرب إلى السجود، رأيت رأس رضيع معلقة في شجرة وفي فمه "عضاضة" وقد التقطت بكاميرتي هذه الصورة المعبرة والمبكية، وكانت وقتها الصورة الأهم في وكالات الأنباء، وحديث منابر المساجد في خطب الجمعة وجمعيات الإغاثة. عندما وصلت المسجد كان الصرب قد أنصرفوا بعد أن أنجزوا مذبحتهم التي اختاروا توقيتها بدقة بحيث يكون مزدحما بالعابدين الساجدين الآمنين، وسمعت من كان شاهدا عليها يقول إنهم ارتكبوا فعلتهم بحقد دفين وكبير، وكانوا يطلقون رصاصهم وهم يصرخون "ترك. ترك" وهذه الكلمة تعني "المسلمين" في مناطق البلقان وغيرها من المناطق الأوروبية التي دخلتها الدولة العثمانية. المعنى أن غريزة الانتقام متوارثة منذ القرون الماضية وستستمر مع اتساع رقعة اليمين المتطرف في أوروبا وانتشار شعاراته المعادية للمسلمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا اليمين الذي يتفوق على تنظيم داعش في الإرهاب والقتل الجماعي للأبرياء والذبح بدم بارد، وجد في بعض القادة والزعماء والسياسيين ما يشجعهم على المزيد من التطرف في أفكارهم وأفعالهم. سفاح المسجدين عبر عن إعجابه بأفكار دونالد ترامب رئيس الدولة المتحضرة الأولى في العالم، فالرجل أظهر في وقت مبكر قبل ترشحه لرئاسة الولاياتالمتحدة وبعد فوزه، عداءه للمسلمين والمهاجرين، وذكر أن إصراره على بناء الجدار الفاصل مع المكسيك، يهدف إلى منع الشرق أوسطيين من الدخول إلى بلاده. كذلك يجد السفاح وغيره إلهاما من سياسيين وأحزاب يمينية تؤكد عداءها الشديد للمهاجرين المسلمين، مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، بزعامة مرشحة الرئاسة الخاسرة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ماريان لوبان، ومنظمة النازيين الجدد في فرنسا المعادية لكل من يعيش في فرنسا من غير الفرنسيين، وخاصة المسلمون، وحزب الحرية اليميني في هولندا بزعامة خيرت فيلدرز أكثر الأحزاب تطرفاً. وينتمي "النازيون" في ألمانيا إلى جماعات الضغط اليميني المعادية للمسلمين، وكذلك "الفاشيون" في إيطاليا، والأحزاب الدينية في أميركا وبريطانيا وسويسرا. وتصنف صحيفة الجارديان البريطانية الكتل السياسية الأوروبية والغربية المحافظة بأنها يمينية باقتدار. بقي أن يتعامل إعلامنا بموضوعية وشجاعة مع الإرهاب الذي يستهدف المسلمين ويتخلص من الإزدواجية في المصطلحات والعناوين التي تخرج الحقائق عن السياق. نلاحظ أن قناة العربية لم توفق في تسمية ما حدث في المسجدين بأنه حادث إطلاق نار، رغم أنها تطلق مصطلح "الإرهاب" على أي حادث بسيط ضد غربيين يرتكبه محسوبون على المسلمين. بل استخدم موقع القناة على الانترنت كلمة في عنوان يورط المسلمين في حادث إطلاق نار على محطة للترام وأحد مساجد مدينة أوتريخت الهولندية، فجاء فيه: "قتلى وجرحى بإطلاق نار في هولندا.. والمهاجم رجل تركي" وهو لمن يفهم في الصحافة عنوان تقريري جازم، رغم أن الشرطة الهولندية لم تثبت ذلك، ولم تشر إليه أي وسيلة إعلام محلية. وتجاهل موقع القناة في ثنايا الخبر إطلاق النار على أحد المساجد القريبة من موقع الحادث بحسب وسائل إعلام محلية، رغم ذكره أن السلطات الهولندية وجمعيات إسلامية قررت إعلاق المساجد في أوتريخت احترازيا. الإعلام الهولندي والغربي لم يتردد في ذكر الحقيقة، فقد ذكرت صحيفة دي تليجراف الهولندية أن جميع المساجد في المدينة التي وقع بها الهجوم أُغلقت كإجراء احترازي. وأضافت- نقلاً عن متحدث باسم مسجد "أولو"، أكبر مسجد في أوتريخت-: "لقد فعلنا ذلك بالتشاور مع الشرطة". إعلامنا يفتري علينا باللف والدوران في التسميات والمصطلحات وإخفاء الحقائق التي تؤكد أن العنف يستهدف المسلمين، وأن سفاح المسجدين قد لا يكون الأخير لا سمح الله. [email protected]