أحيانًا يكون لديك الكثير من مقومات السعادة، ولكنك لا تشعر بأنك سعيد، ذلك لأن تلك المقومات لم يتم غزلها فى نسيج واحد وتركت مبعثرة فلم تعط ثمرتها. كانت لدى أحلام كثيرة تحققت جميعها، لدى أسرة وأبناء أحبهم، زوج محب وعمل أمارسه بشغف (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أصبعى، الذى يكتب الآن نعمة وعينى، التى تقرأ وتفتح لى نافذة الحياة نعمة كبيرة، قلبى الذى يدق فتتدفق الدماء فى شرايينى نعمة. لو أننى منذ سنوات كنت قد اطلعت على ما سأحصل عليه فى المستقبل لكنت فرحت غاية الفرح ولكنى اليوم غير سعيدة، هناك صعوبات ونكبات تعوق شعورى بالفرح، هناك أحلام مؤجلة وآمال لم تتحقق والكثير من الإحباط، وغالبًا يطغى تفكيرى السلبى فى المشاكل ومواجهتها على كل مقومات السعادة فى حياتى. ربما يومًا ما أشعر بالسعادة عندما يتم حل مشكلاتى وتحقيق آمالى، هذه الدائرة المفرغة، التى ندور فيها هى دائرة استنزاف السعادة وسرقتها. السعادة متاحة للجميع وهى فى متناول كل من فهم أسرارها، أول أسرارها أنها ليست أملا محددًا نريده فتتحقق السعادة ولكنها رحلة السعى لتحقيق الآمال. يعلق الطالب آماله على إنهاء الدراسة بنجاح ويحصل فعلا على شهادته العليا، ولكن لا يجد كنز السعادة فى انتظاره، وتعلق الفتاة آمالها على الزواج بمن تحب وتتخيل أن ما بعد ذلك هو شلال من السعادة يرفعها ويتأرجح بها طيلة حياتها، وقد نعمت بنعيم الحب وهنائه، ولكن الوضع يختلف تمامًا بعد الزواج إذ تفاجأ أن ما ينتظرها هو شلال فعلا، ولكن من المسئوليات والمهام التى تحتاج جهدا وعملا وصبرا. لو أن الطالب استفاد برحلته التعليمية واستمتع بمباهجها من الصحبة الطيبة وفراغ البال لشعر فعلا بالسعادة بدلا من انتظارها، ولو أن الفتاة انتفعت برحلة صباها فى صقل معارفها واختزان البهجة لوصلت محطة الزواج محملة بما ينفعها. من أسرار السعادة أيضًا أنها لا تعنى أبدًا الحياة الرخوة الخالية تمامًا من المصاعب والتحديات بل والنكبات أيضًا، إن تلك الحياة الرخوة غير واقعية وغير ممتعة أيضًا. يقول (برناردشو) الكاتب المسرحى الحائز على جائزة نوبل حياة كلها سعادة! لايوجد إنسان على قيد الحياة يستطيع تحملها! إنها ستكون الجحيم على الأرض!. للمصاعب فائدة كبرى إنها تقوم الإنسان وتجعله يفهم حكمة الحياة وتعيده دائما إلى الصف الإنسانى أما الأحداث السارة فإنها توسع مداركه وتمكنه من التشييد والبناء. من أسرارها أنها ليست متعة خالصة وبهجة سرور سلبية، ولكنها حالة من الهدوء والاتزان النفسى تجعل الإنسان أكثر فعالية ونفعًا، السعادة تحسن الصحة وترفع المناعة فتعين على أداء العمل، كما أن السعداء أفضل أداء لعملهم وهم مواطنون صالحون أكثر من غيرهم. أما عن علاقتها بالمال فهى علاقة حقيقية، ولكنها نسبية فكل من يعمل ويكد ويكسب ما يكفى احتياجاته فقد حصل على ما يكفيه من المال، كما أن من يكسبون أكثر يشعرون بالسعادة أكثر، وذلك ليس لمجرد امتلاكهم للمال ولكن لأن اكتسابهم له معناه أنهم يؤدون عملهم بنجاح وأنهم يبذلون جهدا أكثر من غيرهم، كما أنهم يشعرون بنوع من الأمان والمكانة الجيدة فى المجتمع، وكذلك يمكنهم تقديم يد العون لمن يحبون. من أهم ينابيعها التدين العميق والحالة الروحانية الخالصة، التى تكسب النفس السكينة بين يدى الله سواء فى الصلاة أو الصيام أو فى أطهر البقاع أمام الكعبة وهى تلك الحالة التى تجعلك تشعر أنه مهما حدث فإن جوهرك صاف، وأن لديك سندا قويا يحميك من الانكسار، ومن أهم ينابيعها أيضًا الحب والعلاقات الاجتماعية الناجحة، التى هى ماء الحياة. لو كنت راضيا عن حياتك يستقر الإيمان فى قلبك ولديك من تحبهم ويحبونك وتمارس عملا نافعا بشغف، وقد حباك الله الصحة والستر فاغزل من كل ذلك إحساسك بالسعادة ومارسها فورا وتذكر المتعة الحقيقية فى تفاصيل الرحلة، فى السعى ومواجهة الصعاب وفى استخلاص قطرات الأمل والهناء من ركام الفوضى واليأس. أما لو لم يكن لديك من كل ذلك إلا القليل فأنت مرشح للسعادة بقوة فى أثناء سعيك وكفاحك لتحقيق آمالك المشروعة، إذا لم تصدق فتأمل شهية الجائع الفقير وفرحته بوجبته وعزوف من تكدس فى بيته الطعام عن تناوله.