ما بين استعراض لتلمذة كاريوكا على يد الراقصة الشهيرة بديعة مصابنى اللبنانية، مروراً بالصراع بينهما بعد اقترابها من القصر، ووصولاً للمرأة المتعددة الزواج، ثم الاشتباك مع السياسة والمبالغة فى دورها الوطنى، أثار مسلسل كاريوكا الذى أُذيع فى شهر رمضان المنصرم جدلاً واسعاً حول حقيقة الأحداث التاريخية الواردة فيه.. وما إذا كانت خيالاً من تأليف الكاتب أم واقعاً تاريخياً حقيقياً.. بل أثار عدة تساؤلات أهمها: هل يمكن تقديم حياة الراقصات على الشاشات العربية كقدوة للأجيال القادمة؟ وما هو الهدف من وراء تقديم سيرة كاريوكا فى تلك اللحظة؟ هل كان لإبراز بعض أنشطتها السياسية؟ أم جاء كمقدمة لسلسلة من الأعمال الدرامية تتناول تاريخ الجسد فى مصر فى المرحلة المقبلة؟ وهل الحديث عن تاريخ كاريوكا يعد مؤشراً للمحن التى كان يعيشها الوطن بسوءاته؟ وهل الفترة التى ظهرت فيها كاريوكا يمكن التأريخ لها على أنها الأنموذج لتاريخ الجسد فى مصر؟ على اعتبار أنها أكثر الفترات التى شهدت انفتاحاً فى الملابس والتوسع فى تقليد الغرب أكثر من أى وقت سابق أو لاحق؟ وللإجابة عن تلك التساؤلات نقول بأنه إذا كان الجسد الإنسانى هو السطح الذى تُنقش عليه الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فمن خلال تشكيله بالوشم وتسريحات الشعر والملابس والحلى وغيرها، يعبر هذا الجسد عن الثقافة والهوية، التى يريدها الفرد والجماعة والأمة، إلا أن تقديمه بشكله السافر عبر سير الراقصات المصريات يعنى أننا نميل لما يسمى بالتاريخ الخسيس للوطن، ونحاول أن نقدم الجسد العارى والراقص وكأنه أصيل فى ثقافتنا.. وربما يكون الاهتمام بتاريخ كاريوكا ناتجا من اهتمام المفكر الفسطينى الشهير إدوارد سعيد بها، واعتباره إياها بأنها تقف فى قلب النهضة المصرية إلى جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كلثوم وعبد الوهاب والريحانى.. وأنها النموذج الواضح للتحرر والانفتاح والتمرد على الطاعة. ربما يكون تاريخ كاريوكا مرتبطا بالفترة القلقة من حياة مصر خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها.. ففى تلك الفترة لم تختلف مصر عما كان يجرى فى بلدان العالم الأخرى.. فقد سعى الإنسان وراء شهواته بصورة جامحة وواسعة عن أى فترة سابقة. وهذا مثل تهديداً للنظم السياسية القائمة بعد الحرب العالمية الثانية، فشجعت الأفراد للانغماس فيها وفى الانفتاح والتعرى حتى يخلص لها الحكم.. ورغم أن عمل كاريوكا لم يأت بناء على سيرة ذاتية مكتوبة أو تلخيصا لقصة أو رواية كتبها قصاص أو أديب، إلا أن حجم الاتهامات القائمة الآن بين الورثة ومنتجى العمل جعل المسلسل مجرد مشاهد دبجها مؤلفة دون وثائق مكتوبة، على الأقل حين اشتبك مع التاريخ.. ومن ثم بدا واضحاً أن الذاتية والخيال واضحان للعيان فى العمل المقدم.. فالمسلسل يا سادة طالما اعتمد على التاريخ والاشتباك مع الماضى، وجب عليه الاقتراب أكثر من هذا الماضى والتدقيق فى أحداثه عند الأخذ منه للعمل الفنى. من هنا، يتضح أن المسلسل فى شقه السياسى، هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع والحقائق. وبدا أن ما قُدم كان مجرد قصص غرقت فى تفاصيل زواجات بطلة السيرة أكثر من الشخصيات والموضوعات السياسية التى احتك بها.. فانتقاؤه لأحداث معينة انحاز فيها لبعض الروايات غير المحققة دون بعضها، يشير إلى محاولة تسويق روايات لم يثبت صحتها، بل هى أبعد ما تكون عن الواقع التاريخى. فعلى سبيل المثال لم يثبت أن كاريوكا هى التى أخفت الرئيس السادات فى الأربعينيات.. ولم يثبت أن السادات هو الذى قتل أمين عثمان كما جرى تقديمه فى المسلسل.. فهو أحد المتهمين المدبرين للحادث، وليس هو القاتل. بل إن المؤلف لم يتحر الدقة حتى فى الأحداث الفنية التى أوردها. فهناك جدل حول مدى انسحاب تحية كاريوكا من مهرجان كان السينمائى احتجاجًا على تحيز لجنة التحكيم لصالح إسرائيل، ووصف إحدى الممثلات بأن الإسرائيليين متحضرون يعيشون بين العرب الهمج.. ولم يثبت أصلاً أن عبدالناصر قد كرمها أو منحها جائزة الدولة التقديرية عن التمثيل بناء على هذا الموقف.. بل لم يحاول كاتب العمل أن يقرأ ويستفيد من التاريخ والسياسة أكثر. فعلى سبيل المثال كان من الممكن له أن يوظف زواجها من الضابط مصطفى كمال صدقى، أحد أفراد الحرس الحديدى، الذى اصطنعه الملك فاروق فى الأربعينيات، ثم اتهامها وإياه بمحاولة قلب نظام الحكم فى عهد الثورة بتهمة توزيع منشورات شيوعية لحركة حدتو الشيوعية، ليفيد المشاهد أكثر فى تلك المناطق العتمة. أعتقد أنه حتى فى موضوع الزواجات المتعددة لكاريوكا انحاز لبعض الزواجات دون الأخرى دون الوقوف على الزواجات السياسية من بينها.. ورغم أن هناك اختلافات حول عددها وما إذا كانت 14 أو 17 زواجًا، إلا أن زواجها قبل الأخير من فايز حلاوة، بلديات الرئيس السادات، والذى استمر معها أطول فترة، مستغلاُ إياها فى تقديم أعمال تسيء لعبد الناصر وعهده، والذى طلقها وتزوج المذيعة فريال صالح، وطردها من شقتها، أعتقد أن هذا هو الذى فرض نفسه على العمل.. وعلى تقديم رواية إيوائها للسادات فى فترة هروبة فى الأربعينيات.. فالثابت أن الذى خبأته كاريوكا عن أعين الشرطة هو شهدى عطية الشافعى، أحد أبرز المفكرين الماركسيين المصريين المغتالين فى سجون عبد الناصر فى الستينيات، وكذلك المفكر أنور عبدالملك، مدير مكتب محمد حسنين هيكل.. فربما كانت معارك الأخير مع السادات هو الذى جعله يسوق تلك الفكرة عبر مديره، لتسوقها هى بطريقتها فجاءت كما رأينا فى العمل. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة