لا أحد كان يتصوّر أن مظاهرة 25 يناير 2011 ستكون شرارة ثورة تتوّج بإجبار مبارك على التنحى بعد 18 يومًا فقط.. لكن كل عوامل نجاح تلك الثورة كانت متوفّرة فالأرض كانت شديدة الخصوبة لإحداث التغيير المُنتظر وإسقاط نظام قد شاخ وصار مرفوضًا حتى من قوى وأجنحة من داخله، بل يتأكد فيما بعد أن المؤسسة العسكرية نفسها لم تكن راضية عن كثير من سياساته وسلوكياته خصوصًا التوريث لذلك كان موقفها مهمًا فى تطوّر المظاهرة إلى ثورة ونجاحها فى النهاية. لكن الليلة غير البارحة لأن البلاد بالكاد بدأت تضع نفسها على أول طريق الاستقرار وتحقيق أهداف الثورة مع انتخاب أول رئيس مدنى بنزاهة، فالشعب صار متعبًا من نتائج وتداعيات الفترة الانتقالية التى تخللتها أخطاء كثيرة أرهقته وأساءت عمدًا للثورة، لكنى أزعم أنه بات الآن متفائلاً بالمستقبل، ومن هنا نرى أن الدعوة لما يُسمى الثورة الثانية فى 24 أغسطس هى مسألة يختلط فيها العبث بالمراهقة السياسية بالشو الإعلامي، فليست هناك أى عوامل جدية تؤشر إلى ضرورة قيام ثورة أخرى ولو للتصحيح مثلاً، لأن التصحيح الحقيقى يقوم به الرئيس محمد مرسى بما يتخذه من قرارات حاسمة لبناء دولة مدنية قوية. ما يُقال عن 24 أغسطس منذ أسابيع هو مجرد ثورة افتراضية فى خيال من يدعون لها، والإعلام الموجّه يساهم بقدر كبير فى تضخيم توافه الأمور، ونشر مثل تلك الدعوات، ورفع قامة البعض ممن لا يستحق، وهو ما يتجسّد الآن فى تلك الدعوة ومن يقفون وراءها ممن لم يعرف لهم أى دور فى معارضة النظام السابق المستبد - بعضهم كان يعمل فى خدمته - غير أنهم ركبوا موجة الثورة الحقيقية فى 25 يناير وبرزوا من خلالها على الساحة. عمومًا هى فرصة جيّدة لهؤلاء ليعرفوا حقيقة وجودهم وتأثيرهم فى الجماهير العريضة، ويعرف المجتمع أيضًا أنهم غير جديرين بالتحدّث باسمه وأنهم لا يساهمون فى دفع مسيرته بل هم يعوّقونها. أتذكر الدكتور عبد المنعم سعيد خلال ثورة 25 يناير عندما أطلق على مظاهرة مصنوعة فى ميدان مصطفى محمود بأنها "الثورة الثانية" فى مواصلة لعملية الخداع والتضليل لجانب من المصريين بأن فى مصر ثورتين ولكل منهما مطالب إصلاحية أى أن "مصطفى محمود" معادل أو مكافئ ل "التحرير" لإطالة عمر مبارك ونظامه وتمرير خُطته بالإفلات من الثورة للبقاء أشهرًا أخرى يُعيد خلالها ترتيب أوضاعه لتمكين نفسه والعصف بالثوار، وهذا كان الباطل بعينه ولذلك سقط بعد ساعات فى موقعة "الجمل" لأنه باطل. هناك من يكرّرون الخُدعة الآن تحت اسم الثورة الثانية لكنهم أقل درجة من عبد المنعم سعيد الذى احترم نفسه ونفض يديه سريعًا من فكرة الثورة الثانية، ما يفعله هؤلاء هو محاولة جديدة يستثمرها الفلول لإرباك الأوضاع وتأخير إعادة الاستقرار والهدوء وإشغال الرئيس والحكومة فى ألعاب مراهقين، هم ظاهرة صوتية فقط. هناك ثورة واحدة فقط وضعت مصر على الطريق الصحيح وأهدافها تأخذ طريقها للتنفيذ خصوصًا بعد التخلّص من المجلس العسكرى ومن رؤوسه الكبار الذين كان يحتمى بهم الفاشلون وكانوا يروّجون لسيناريو انقلاب عسكرى على الرئيس المنتخب، عاد الجيش إلى ثكناته يواجه الإرهاب فى سيناء ويحمى الحدود ويتدرب ويخطط لمواجهة أى اعتداء ويكون يقظًا فهذا عمله، أما ممارسة السياسة ومنازعة الرئيس على السلطة واحتكار التشريع ورعاية فرق من الانكشارية للترويع والتضليل فى الأحزاب والإعلام والشارع فهذا ليس من اختصاصه. الرئيس الذى يُراد إسقاطه دخل القصر بشرعية الصندوق النزيه ولم يصل بالتزوير كما كان مبارك ومن يريد أن يثور فالطريق صار واضحًا الآن وهو صندوق الانتخابات ليحوز أغلبية البرلمان ويفوز بالرئاسة ويشكل الحكومة. الثورة المفترضة تدعو أيضًا لإسقاط جماعة الإخوان، إذا كان التاريخ يذكر أن الملوك والرؤساء فى مصر لم يفلحوا منذ تأسيس الجماعة عام 1928 فى القضاء عليها فهل يمكن إسقاطها اليوم بعد أن صار أمامها حزب حاز أغلبية برلمانية ومنه خرج الرئيس فى انتخابات شهدت حملة هجوم مسعورة عليه وعلى جماعته ومع ذلك نجح فى الفوز بالمنصب ما يؤكد قدرة تلك الجماعة على التنظيم والحشد. نعم، الجماعة يجب أن تقنن وضعها، وأن تخضع أموالها للرقابة والمحاسبة، لكن المواجهة الجادة لها تكون بمنافستها سياسيًا وخدميًا والانتشار وسط الناس كما تفعل هي. ماهى السلطة التى يحتكرها الإخوان اليوم؟ بعد حل البرلمان، ليس هناك إلا الرئاسة، والرئيس يؤكد كل يوم أنه رئيس لكل المصريين وليس للإخوان، رئيس يضع لبنات الدولة المدنية غير العسكرية، ويؤسس الدولة الديمقراطية غير الاستبدادية.. لا أظن أن أحدًا آخر فى مكان مرسى فى هذه المرحلة التى كان المجلس العسكرى يسيطر فيها على مفاصل الدولة كان قادرًا على فعل ما فعله فى شهر واحد فقط، مرسى فعل ذلك مستندًا ليس فقط لكونه رئيسًا منتخبًا بل لأنه مؤمن بالثورة وبأهدافها ومنها مدنية الدولة ولأن وراءه حزبًا وجماعة قادرين على دعمه شعبيًا. الثورة الحقيقية لكل من يريد أن يقوم بها اليوم هى أن يؤسس كيانًا شرعيًا وأن ينزل للشارع ويحوز ثقة الناس فى الانتخابات، فهذا هو المجال الأجدى لمواجهة الإخوان وإسقاطهم داخل الصندوق الشفّاف. [email protected]