أصيب قطاع كبير من الرأي العام المصري، بصدمة مزجت ردود أفعاله بين "الذهول" و"الغضب الناقم" الشديد، بعد أن تابع الناس مهرجان "الجونة" السينمائي، الذي شهد منافسة (غير مسبوقة) في إبراز النهود والصدور وعرض الفساتين الساخنة، التي تكشف بأكثر مما تستر، دون أي مضمون سينمائي فني جاد أو لافت للنظر، وكأن الفعالية السينمائية المطروحة خلصت فقط لإبراز الملابس الساخنة / المخملية التي لا تنتمي لإنساننا المصري، ولا تمت بأدنى نسب لقطاعات الطبقتين: المتوسطة والدنيا، بما فطرت عليه هذه الطبقات المصرية المتجذرة في طمي الوطن، من خلق وتوجه وولاءات! وبقي السؤال: ماذا بعد إبراز الإمكانيات الجسدية الصارخة؟ هل تطور الفن السينمائي المصري مترًا واحدًا إلى الأمام، فسبق في الحلبة؟! وهل أفلت الخطاب السينمائي المصري من قبضة "السبكي" وشكيمته النافذة التي مرغت الفن السينمائي المصري في التراب، وأطاحت بتاريخه الرفيع؟ وهل نجح السينمائيون المصريون في أن يقدموا "منجزًا سينمائيًا" رفيعًا يستحق أن يتابعه العالم المعاصر، وينتبه له جيدًا؟. عبر إحساس الذهول والغضب والسخرية، عن نفسه من خلال فيض منفجر _ كعاصفة الخماسين! _ من التعليقات المصرية اللاذعة، على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي التعليقات التي تبارت في إبراز السخط البالغ من درجة "التعري" غير المسبوق في الزي، حتى أسماه بعض الساخرين الخبثاء: "مهرجان الصدور" وكأن الفعالية قصد بها الإبراق بمزيد من رسائل الاستفزاز إلى أصحاب الولاءات الدينية تحديدًا، أيًا ما كانت مشاربهم وأفكارهم! وشاعت التسمية بين قطاع عريض من المصريين! وإذا كان الزي الشخصي قرارًا شخصيًا من الناحية الجدلية، فهل أفاد الفن السينمائي المصري بأية صورة من مواكب "الجونة" الصارخة؟ وهل عاد هذا الضجيج (المكلف للغاية) على السياحة المصرية أو الصورة الحضارية لمصر بأية فائدة أو عائدة؟ فيمَ كانت الزفة إذن؟ ولمن كانت الرسالة؟ وهل أصابت الرسالة أهدافها بالفعل؟. وفي فيض التعليقات والأسئلة المواكبة لما أصر بعض المعلقين على تسميته: "فضيحة الجونة"، وجب تصحيح هذه الفكرة المغلوطة، أو الوهم الشائع حول ما يسميه السينمائيون المصريون _ السينمائيون المصريون وحدهم! _ "التجربة السينمائية المصرية العالمية"! فالتجربة السينمائية في مصر صدرت لنا عبر عقود "وهم العالمية"، فيما نعرف أن تجارب سينمائية، تنتمي إلى العالم الثالث، بدأت مع مصر، أو بعد تجربة مصر، وأفلحت بالجهد الفني المبذول، وحشد الطاقات الرفيعة بصورة جادة منتمية، في أن تصل بالفعل إلى سقوف العالمية، كالتجربة السينمائية الهندية، أو التركية، أو حتى الإيرانية، وآمل من المطنطنين بوهم العالمية في الدوائر السينمائية المصرية، أن يتابعوا تجارب المخرج الإيراني المتميز "محسن مخملباف" كي يخجلوا من أنفسهم، ومن أطباق السم الزعاف التي يقدمونها للمصريين وهي أطباق مخلوطة بالبورنو والعنف والسنج والمطاوي، تحت وهم السينما الراقية أو تحت وهم "الفن السينمائي"؟!. فتحت حوارات مطولة من قبل مع المخرج المعروف "خالد يوسف" بشأن ما يدعونه _ ويدعيه هو كثيرًا! _ حول "عالمية السينما المصرية"، وهو من أدخل خلطة المثلية والجنس الرديء والجريمة الدامية في مشاهد الشاشة بفجاجة، بل حشد السينمائيين في معركة مفتوحة مجلجلة مع ولاءات الشعب ومعتنقاته ومشاربه الأخلاقية، بما يتجاوز الاستفزاز، بذريعة الحرية والتجديد، وعندما احتاج الأمر لإثبات ولاءات خالد يوسف نفسه لقضية الحرية، في عدة مواقف صمت المخرج الهمام، ودس رأسه خلف الأستار، للإفلات من إثبات المواقف! (والأمثلة كثيرة!). افتحوا لنا _ أيها الكذبة _ موسوعة سينمائية عالمية واحدة، وهاتوا لنا سطرًا يتيمًا عن السينما المصرية لنصدق "أكذوبة العالمية"، ففي موسوعة "الفيلم السينمائي" للناقد العالمي المعروف "أفرايم كاتز"، ومن جملة 1266 عمودًا من الأعمدة الصحفية التي تسجل مآثر السينما العالمية، لا نجد إلا عمودًا واحدًا عن "السينما المصرية"! "عمودًا واحدًا" يا مروجي وهم العالمية؟! وفي موسوعة السينما الكبيرة، التي أصدرتها دار نشر "أوربس" في منتصف الثمانينيات، لم نجد في الموسوعة _ بمجلداتها الأربعة _ إلا عمودًا واحدًا صغيرًا عن السينما العربية، ضم مصر والجزائر وفلسطين! فأين العالمية المزعومة؟!. أعرف أن الفن السينمائي المصري عريق، فحين ظهرت التجربة السينمائية الأولى في باريس عام 1895، ظهرت هذه التجربة نفسها في مصر في العام اللاحق 1896، في بورصة طوسون بالإسكندرية تحديدًا، حيث عرف المصريون السينما، بعد أن عرفها العالم بعام واحد، وكان ثمة بارقة أمل في مخرجين بقامة "كمال سليم" (الذي اختطفه الموت عام 1948)، ليصلوا بالفعل بسفينة السينما المصرية إلى العالمية، ولكن غلبة النزعات التجارية وأفلام المقاولات والافتقار إلى المشروع الفكري (الحر) والرسالة الحضارية الوطنية الواضحة، كل أولئك شد البلاتوهات المصرية إلى المواخير وعلب الليل، والنفاق السياسي الفج، والخلطات الساذجة المسمومة، الخالية من أية فحاوى أو "فكر" رفيع مستنير! وصحيح أن عباقرة بقامة "عاطف الطيب" و"توفيق صالح" و"صلاح أبو سيف" و"شادي عبد السلام"، قد حاولوا أن يقدموا "فاكهة ناضرة" مغايرة، لكن اختناق فضاء الحريات، وغيبة الفكر وهيمنة رأس المال الضحل، قد كسر أحلام هؤلاء، ورسخ تجربة سينمائية ضحلة، تلائم وعيًا فقيرًا أكثر ضحالة؟!. بوضوح: هل كانت رسالة "الجونة" فنية أم سياسية أم سياحية؟ وهل نجحت الفعالية الصارخة _ كقنبلة الصوت _ في أن تحقق أيًا من هذه الرسائل؟! وهل هذا الضجيج حول فنانين وفنانات _ صنعت لهم خلطة الضحالة والتسطيح نجومية وهمية (داخلية فقط) ! _ أقول هل هذا الضجيج يسمعه غيرنا، وهل هذه الزفات والمواكب، التي تحشد لها رؤوس الأموال الكبيرة، يحس بها أحد سوانا؟! ومتى يفهم أصحاب وهم العالمية _ في الجونة أو في غيرها _ أن العالم الذي نستهدفه بهذه المواكب يضحك في كمه ساخرًا؟ والأفضل من إثارة الضباب _ من خلال فكرة الإلهاء عن القضايا الأصلية _ أن نعكف على أزمات الحرية ورغيف الخبز والانقسام المجتمعي الخطير، فنحاول أن نلتمس لها حلولًا، أو جسورًا على طريق الحل، فهذا أفضل كثيرًا من تجرع وهم العالمية!.