لم أندهش وأنا أقرأ خبراً في موقع جريدة الوطن 17/8 عن خطيب جمعة "الشيخ محمود عاطف" خريج كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر ويعمل في الوقت نفسه بائعاً للعرقسوس، يحمل قدرة ويمشي في الشوارع كي يبيع العرقسوس، لأن جملة ما يأخذه مقابل الخطب الأربعة في الشهر هو 160 جنيه، يخصم منهم 20 عند القبض، أما ما يحصل عليه صافي بيع العرقسوس في اليوم هو 70 جنيها، ولأنه يعول أربعة أبناء وزوجته، فهو لا يستحي من عمله هذا، وحتي في بعض الأحيان يتصادف بأن يقابله في الشارع وهو يبيع العرقسوس بعض المصليين الذين يؤمهم في صلاة الجمعة، لكنه يقابلهم-كما يقول-بإبتسامة، بل يقدم لهم العرقسوس مجاناً في بعض الأحيان. أغلب الظن أنه ونظراً للظلم الذي يقع عليه من المجتمع، بل ذبحه وإغتياله منعوياً، والذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، لذا فإن الإبتسامة التي يكون عليها حين يقابل هؤلاء المصليين في الشارع، تشبه-خداعاً-إبتسامة الرضا التي ترتسم علي الكبش أثناء حز الجزار رقبته بالسكين. لا أدري لماذا إفتقدنا الإحساس بظروف بعضنا البعض، فبدلاً من أن يجمع هؤلاء المصليين من بعضهم قدر معقول من المال ويعطونه كمكافأة لخطيب مسجدهم تحفظ عليه كرامته، تركوه يبيع العررقسوس، بل إستحل البعض أن يأخذوا من هذا الرجل الشقيان-بسيف الحياء-العرقسوس مجاناً و"إنا أسفأناكم" مع الشيخ محمود. أتعجب لما حدث مع شيخ أزهري جليل رحمه الله وكان معاراً للعمل معلماً إلي ليبيا في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وفي أحد أيام الجمعة ونظراً لغياب الخطيب الأساسي، طلب منه المصليين أن يتقدم للخطبة لأنه كان يرتدي الزي الأزهري المعرف، وبعد أن قدم خطبة رائعة أعجبتهم، الأمر الذي كان نتيجته أن طلبوا من السلطات في تلك المدينة أن يكون خطيباً دائماً، لكن طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود وهو يخطبهم الجمعة ويلقي الدروس الدينية، فكان يحوز علي حبهم وإحترامهم، بل حرصوا الأشقاء الليبيين علي راحته واحاطوه بهالة من التقديس لمصري من أهل العلم والدين. ليس في ليبيا فقط يكرم ويحترم أهل العلم، بل في كل أنحاء الوطن العربي، ولكم أن تتصورا أن إمام المسجد القريب من المنزل الذي كنا نسكن فيه في الرياض بالمملكة العربية السعودية خلال فترة عملي بالجامعة هناك، كان مخصصاً له سكن ملحق بالمسجد عبارة عن أو يشبه القصر، وكان مظهره يدل علي أنهم يتعاملون مع أهل العلم والدين بكل التقدير المادي والمعنوي الذين يستحقونه. نعود لجريدة الوطن وأكبر الظن أنه وهي تنشر الخبر تشير ضمناً وتلمح إلي أنه علي الناس أن يرضوا بحالهم الذي هو أفضل من غيره بالتأكيد، وألا يخجلوا من أي عمل إضافي مهما كان، مثل خطيب الجمعة وفي نفس الوقت يبيع العرقسوس لزيادة دخله، ولذلك لا نستبعد أنها تخاطب بعض الفئات مثل المعلم أو الأستاذ الجامعي أو الموظفين الذين لا تكفيهم رواتبهم، أنهم لا يستنكفون في زيادة دخلهم مثلاً بشراء تكاتك والعمل عليها في أوقات الفراغ، وإذا ركب معهم بعض التلامذة، في تلك الحالة عليهم ألا يأخذوا من تلاميذهم أجرة عندما يركبون معهم، مثلما يفعل الشيخ محمود مع المصليين.