بعيدا عن جدل الإعلام العربي والسوشيال ميديا العربية بشأن دلالات فوز أردوغان وغضب الإعلام الغربي وتشنيعاته حول هذا الفوز بأغلبية بسيطة، فإن تركيا انجزت انتخابات شفافة ونزيهة باعتراف المعارضة فيها وخصوصا المنافس الرئيسي محرم إنجه مرشح حزب الشعب الجمهوري وهو نائب عن ولاية بالوفا، ينتمي إلى التيار العلماني اليساري. حقا يجب أن نخلع القبعة لإنجة، فقد اعترف بعقلانية شديدة ونادرة بهزيمته، لا يمكن أن يصل التزوير حسب قوله إلى فارق بعشرة ملايين صوت، فالفارق بينه وبين أردوغان كبير في الأصوات، ومع ذلك تجاوز حزب الشعب الجمهوري أرقامه المنخفضة السابقة حيث لم يسبق حصوله على نسبة أعلى من 25%، وفي هذه المرة حصل محرم إنجة على 30.7% مقابل 52.7% لأردوغان. إنجة الذي ينتمي لعائلة يونانية مهاجرة، علماني معتدل، دافع عن الحق في ارتداء التركيات للحجاب عندما كان محظورا. كان موضوعيا جدا في حملته الانتخابية وأهدافه التي ينوي تحقيقها في حال فوزه. ولم تتخل عنه الموضوعية بعد إعلان النتيجة، وقد كان يمكنه، شأن غيره من المعارضين، التشكيك خصوصا في ظل نبرة الإعلام الغربي المعادية لأردوغان الذي يطلق عليه دائما وصف الديكتاتور. والأكثر من ذلك أنه طلب من الرئيس المنتخب أن يكون رئيسا لكل الأتراك. لم يقل إنه ليس رئيسي أو ليس رئيس الذين لم ينتخبوه، ونسبتهم تكاد تكون نصف الذين أدلوا بأصواتهم، ومجموعهم نحو 59 مليون ناخب بنسبة مشاركة تقارب 90% وهو رقم غير عادي. في الديمقراطية هذه القسمة لا وجود لها، إذ الفائز يكفيه أن يحصل على النصف زائد واحد. لكننا نحن العرب الذين ليس لنا في العير ولا النفير، نردد أنه فوز هش يكرس الانقسام السياسي والمجتمعي. ثقافتنا الانتخابية لا تسعفنا، فقد اعتدنا حصول الفائز على 99% وفي أسوأ الأحوال 90%. الذين لم يصوتوا لأردوغان يساوون تقريبا الذين لم يصوتوا لصالح التعديلات الدستورية في أبريل الماضي والتي بموجبها تحول النظام الحاكم من برلماني إلى رئاسي، فهؤلاء في الواقع لا يرون بديلا مقنعا لأردوغان، لكنهم يتخوفون من سلبيات النظام الرئاسي التي قد تؤدي إلى الاستبداد واستفراد الرئيس بالسلطة، على عكس الأنظمة البرلمانية التي ليس في خزانتها عبر التاريخ أي استبداد أو ديكتاتورية أو سيطرة فرد واحد على القرار. لكن هذا الخروج الكبير للمشاركة في الانتخابات والفارق البسيط لصالح أردوغان يؤكد لنا أن الشعب التركي نفسه ومعارضته المثقفة الناضجة قادران على حفظ التوازن وحماية الديمقراطية، ومن الصعب تحول أي رئيس إلى ديكتاتور مستبد. من الممكن جدا أن يفوز محرم إنجه في الانتخابات القادمة لو ترشح مرة أخرى، أو يفوز أي معارض غيره ما دامت المعارضة التركية بخير وعلى ما يرام ولم تنكمش أو تتدجن، وما دام الدستور هو السيد والقانون فوق الجميع، فقد ترشح صلاح الدين ديمرتاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد من السجن الذي دخله قبل عامين بتهم تتعلق بالإرهاب، فالحكومة تعتبر الحزب واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني، ومع ذلك لم تستطع منع مسجون من إعلان ترشحه وإطلاق حملته الانتخابية من داخل السجن، وهذا أمر لا نراه في أي دولة أخرى. أمام أردوغان إذن خمس سنوات، هي مدة فترته الأولى، ليثبت للشعب التركي أنه استحق الفوز البسيط، وإلا فإن الفارق الضئيل لصالحه سيظل مهددا له في حال دخوله الانتخابات لفترة ثانية وأخيرة حسب الدستور. إذ لم يخش المسئول الأول من ضريبة انتخابية تترتب على اخفاقاته وقراراته السيئة، ومن التزاماته الدستورية والقانونية، ولم تكن أمامه معارضة قوية مفتوحة العينين وواثقة من نفسها، فاحتمالات سقوطه في الخطأ دون أن يعبأ بذلك تصبح كبيرة جدا. اعتقد أن تركيا بعد انتخاباتها الرئاسية خارج دائرة هذا الخطر. [email protected]