ما أسهل أن تسبح مع التيار، أن تكون خشبة تحركها الأمواج، فأينما ولَّتْ فثَمَّ وجهتك، وحيثما سكنت فهذا موئلك وموطنك ومستقرُّك، تصل إلى ما وصلتَ إليه بقوة الدفع، لا بكدِّ يمينك، وعرق جبينك. ما أسهل أن تكون ريشة اشتدت بها الريح فى يوم عاصف، تتلاعب بها كلُّ هبة من هبَّاتها، مرة يمينًا وأخرى يسارًا، من غير اختيار ولا اعتراض ولا مقاومة.. أن تصفق لكل متحدث، وأن تؤكد ما يقوله كل متكلم، وأن تهز رأسك متأثرًا بكل خطيب. ما أسهل ألا يكون لك طعم خاص بك، إذا وُضعتَ مع الملح صرتَ ملحًا أجاجًا، وإذا كنتَ مع العسل صرتَ عذبًا فراتًا.. أن تتوشح دائمًا باللون الرمادى الباهت، هربًا من الوضوح، فلا أنت مثل الصبح مبيض، ولا أنت شبه الليل مسود.. لك صفات الماء، لا لون، ولا طعم، ولا رائحة، غير أنك لا تنفع نفع الماء، فلا تروى ظمآن، ولا تنقع غلة عطشان.. أن يصدر عنك الجميع وهم بمحل الرضا، لأنك أسمعتَهم ما يحبون أن يسمعوه، لا ما يجب أن تقوله، فأنت القاسم المشترك الأعلى الذى يقبل القسمة على جميع الأعداد. أن تصدق فيك الآية: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}. وأن يتحقق فيك الأثر: إمعة، مع الناس إن أحسنوا، ومعهم كذلك إن أساؤوا. وأن تطبق المثل: (معاهم معاهم، عليهم عليهم)، إن كانت الجولة لهم فأنت معهم، بل المقدم فيهم، وإن كانت عليهم فأنت برىء منهم إلى يوم الدين.. لكن ما أصعب أن تكون حيث ينبغى أن تكون، لا حيث يصلح أن تكون، لا تبالى مع التيار أو ضده، فى اتجاه الريح أو عكسها. أن تدافع عن شخص ولك ملاحظات عليه، لأنه فى هذا الموطن يستحق الدفاع، وأن تنتقد آخر وأنت تحبه، لأنه ارتكب ما يستوجب النقد.. أن تمدح من ذممته بالأمس، أو تذم من نصرته من قبل، لا لأنك من المتحولين، ولكن لأنك تمدح المحسن، وتذم المسىء بغض النظر عن سابق موقفك منه. أن يكون لك عداوات وخصومات ومعارك، لأن قول الحق يغضب الأصدقاء، فضلاً عن الأعداء.. أن تشهد بالقسط ولو على نفسك، وأن تقول الحق ولو كان مرًّا، وألا تخاف فى الله لومة لائم، وأن تنصف الناس من نفسك، محبيك وكارهيك على السواء. أن تتهادى بين المعسكرات، مرة هنا وأخرى هناك، تترك معسكرك الذى تنتمى إليه لأن الحق جانبه، فيتعجب منك خلانك: كيف تكون علينا وأنت منا؟ ثم تغادر من كنت معهم، فيقولون: أفصح عن نفسك، ما كنتَ يومًا منا، وإن تظاهرت بذلك. أن تتجنب زيغة الحكيم حين يزيغ، وتتبع صدق الكذوب عندما يصدق.. أن تلتمس الأعذار، وأن تقدر الحاجات والضرورات، وأن تتروى فى الحكم، وأن تفكر قبل النطق، وأن تتدبر حين السمع، وأن تسلم عند الاقتناع. أن تدور مع الحق حيث دار، وأن تنظر فى القول لا للقائل، وأن تبحث عن الحق لا الرجال، فإنما يعرف الرجال بالحق.. ألا تمر الأمور عليك مرور الكرام، بل تنتبه لتسلسلها، وتتوقع مآلاتها، وتربطها بعضها ببعض، تضم الواقعة إلى أختها، لتخرج منها بشىء مفيد. أن تكون لك شخصيتك المستقلة، نعم تتعلم وتعلم، وتألف وتؤلف، تتأثر وتؤثر، تتفاعل مع المحيط ولكنك لا تقبل الذوبان. أن تكون أنت، لا ما يريد الناس.