إن الظلم أبشع الآفات التى تصيب النفس البشرية، وهو يأخذ صورته الضارية إذا ملك الظالم من القوة ما يجعل الظلم آلية سهلة لتنفيذ مآربه وتحقيق ما يشبع نفسه المريضة.. هو شذوذ فى أعتى صوره لأنه تمرد على الفطرة الإنسانية، وجور على بنى آدم، وقد كرمهم الله وجعلهم أكرم المخلوقات. والحاكم الظالم يستبد به الغرور ويتدرج به إلى أن يغرق نفسه فى مستنقع توثين الذات.. وفرعون مصر هو أصرخ النماذج فى هذا المجال، فقد رفض دعوة موسى عليه السلام (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى) "النازعات: 23، 24"، وليس من الضرورى أن يكون توثين الذات بادعاء الألوهية، ولكن بإنكارها، والنظر إليها وإلى الدين كظاهرة كانت مرتبطة بالطفولة الأممية وعصور التخلف فى الماضى, ومن أمثلة هؤلاء هتلر وموسولينى, ومن القصص المشهورة أن جوبلز (1897- 1945) وكان وزير الدعاية والأنباء فى عهد هتلر – كان يشرف على إعدام أحد القسس، فقال له "لا تعدمنِ واتق الله فى"، فرد عليه قائلاً "لم يعد العصر عصر الله يا غبى، إنما هو عصر الفوهرر هتلر".. وانتهى به الأمر إلى الانتحار هو وزوجته وأولاده وزعيمه هتلر فى أول مايو 1945. ********** وانطلاقاً من هذه الآفة– توثين الذات – نرى الطاغية يتسم بالأثرة، فهى مدار تفكيره وهى الميزان الذى يزن ويقيس به أعمال الآخرين، فما اتفق مع هواها كان هو الطيب الخير، أما ما خالفها فهو الباطل والخطيئة. ومن هنا تأتى استهانة الطغاة بشعوبهم: فهم فى نظرهم "دهماء" لا يستحقون أن يشاركوا فى سياسة تقرر مصيرهم، أو تسير أمورهم، إلا على سبيل الظاهر الكذوب للترضية وإسكات الأصوات. ومع أحادية هذه النظرة نرى الطاغية متشبثاً بكرسى الحكم, يعض عليه بالنواجذ, وإذا تعارض هذا "التشبث الأبدى" مع دستور الوطن ومصالحه وأعرافه رأيت بطانة السوء ومن ورائهم من حملة المباخر الآكلين على كل مائدة يرفعون أصواتهم بالتبريرات الجاهزة المعدة سلفاً لمثل هذه المواقف . ثم تتحول بعض الأصوات بنبرة عالية إلى القول: أيها المعترضون لو كنتم صادقين فى اعتراضكم، مقتنعين به رعاية لمصالح الوطن؛ اذكروا اسم شخص يصلح أن يكون بديلاً.. يستطيع أن ينجز بعض ما أنجز الزعيم الفلتة.. وطبعاً لا يكون إلا الصمت خوفاً على مصير البديل المقترح.. والمعروف تاريخياً أن الحكام فى الشرق العربى لا يتركون الحكم إلا بالموت أو الاغتيال. وكل ما ذكر من تبريرات تنطلق من فراغ, وتعد فارغة لأنها تحاول أن تمنطق ما لا وجود له – فمن من الحكام العرب- يا حملة المباخر – حقق رخاء وصنع للرخاء مسيرة, أو حقق سلاماً شريفاً، واختط لاستكماله سبيلاً، وأشاع التنوير فى مجال الفكر والتقنية والتعليم؟ إن الواقع الذى نعيشه نحن العرب بعامة، وكنا نعيشه نحن المصريين بخاصة يدحض.. بل يسحق كل مزاعم حملة المباخر وتهويشاتهم إن فى التنويع متعة، حتى فى الهموم "فنجاح الحاكم فى قيادة هذه المسيرات لا يصلح تبريراً لبقائه (حاكماً أبدياً). واذكروا يا سادة رجلاً اسمه "ونستون تشرشل" (1874 – 1965)، الذى كان رئيساً للوزارة الإنجليزية طيلة أيام الحرب الثانية (1939 – 1945)، وحقق على دول المحور أعظم انتصار فى تاريخ البريطانيين، بل تاريخ أوروبا بأكملها على مدار التاريخ، ورفض أن يعلن الأحكام العرفية على شعبه أثناء الحرب، وقال قولته المشهورة: (لا أجمع على شعبنا وطأة الحرب ووطأة الأحكام العرفية).. وبعد هذا النصر العظيم فشل حزبه- حزب المحافظين – فى الانتخابات العامة (النزيهة طبعاً) عام 1945، وترك الرجل الوزارة بصورة طبيعية بعد أن حقق أعظم انتصار، ولم يخرج إنجليزى واحد هاتفاً "بالروح بالدم نفديك يا تشرشل".. فمتى نتعلم؟؟ [email protected]