ما زلت أتذكر صديقي الوديع، وزميل دراستي الثانوية حامد، لم نكن نفترق إلا عند النوم، في صباحات كانون أول (ديسمبر) كنتُ كعادتي متوجها إلى منزله لاصطحابه إلى حيث كنا نلتقي مع رفقاء الدراسة. وعندما شارفت على الوصول إلى حارة حامد، وجدت جلبة وتجمهرا كبيرا بالقرب من منزله، شعرت برعشة، وتملكتني هواجس الخوف والذهول، سرحت بي ظنون وأوهام، لكنني لم أتصور، مجرد تصور، أن يكون زميلي الوديع، قد قرر أن ينتحر ببساطة، أن يؤذي جسده وروحه، وهو الذي لم نعرف عنه يوما أنه اشتبك، أو صارع إنسانا في حياته. قفز صديقي قفزة إرادية عنيفة من الوجود إلى هاوية العدم، ومضى دون أن يودعنا، ترك مئات الأسئلة تحاصرنا، ما سبب الانتحار؟ ما الذي يقود الإنسان إلى شاهق، إلى الرصاصة، إلى المشنقة، إلى الحبوب؟ لماذا الانتحار؟ كما يقول صاحب خربشة جسد. بعد مضي أكثر من عقدين من تجربتي الأولى، هذه المرة كانت في بلاد وزمان مختلفين، كان بطل رواية الانتحار هو جاري الثري، ففي أحد أيام صيف صنعاء خرج إلى الشارع وأمام الغادين والرائحين.. أطلق رصاصة من مسدسه على رأسه، مضى ببساطة مخلفا هلعا وحسرة في قلوب أطفاله الأربعة، وعينين باكيتين تصرخ: من لأولادك بعدك يا جميل؟؟ وعادت ذات الأسئلة التي نكأها انتحار صديقي الوديع لتتحول إلى قلق وجودي. يرى عالم النفس فرويد أن الطبيعة البشرية تتكون من غريزتين جذريتين: غريزة الموت وغريزة الحياة. وهما في نزاع مستمر، تتقاذفان الإنسان، كما السفينة في مجاري الريح والأمواج. على هذا الأساس، يكون الانتحار ناتجاً من غلبة غريزة الموت على غريزة الحياة. لكن، لِمَ هذه الغلبة؟ لِمَ، في لحظة، يصير ما يصير؟ لِمَ، في لحظة، يتحدد المصير في القفزة الحاسمة؟ في لحظة تهيمن رغبة الموت، وإلى الهاوية تنزلق الأقدام؟. شخص واحد ينتحر كل ثانية في العالم قبل شهرين فقط أصدرت منظمة الصحة العالمية بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الانتحار الذي يوافق العاشر من شهر أيلول (سبتمبر) تقريرا مثيرا للدهشة، يفيد أن شخصا واحدا في مكان ما من العالم ينتحر كل 40 ثانية، مما يتفق مع الحقائق التي سجلت سابقا بأن شخصا واحدا على الأقل يحاول التخلص من حياته كل ثلاث ثوان. وأوضح التقرير أن عملية انتحار تتم كل 40 ثانية، وهو ما يمثل حوالي مليون وفاة تحدث سنويا في العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 1.5 مليون، بحلول عام 2020. "ظاهرة" انتحار اليمنيين؟ ولكن السؤال المهم هنا: ماذا بشأن اليمن؟ البلد العربي المسلم المحافظ؟ يؤكد مسؤولون أمنيون أن عدد حالات الانتحار حقق نقلة تصاعدية خلال السنوات الأخيرة، بنسب مذهلة، إذ بلغت في السنوات الأربع حوالي 1470 حالة، منها 316 حالة انتحار خلال الفترة من 1 كانون أول (يناير)، وحتى نهاية تشرين ثاني (نوفمبر) من عام 2003 فقط. ويرفض بعض الأكاديميين إطلاق صفة الظاهرة على حوادث الانتحار في اليمن، ويؤكد الدكتور محمد الأفندي، رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية أن العوامل الاقتصادية من أهم الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الانتحار، وقال "إن الشخص الفقير يزداد عنده الإحساس يوميا بالغبن والظلم، فتتولد لديه حالات العداء للآخرين، ويقدم على الانتحار بعد أن يشعر بالعجز الكامل"، نافيا أن تكون مشكلة الانتحار قد أصبحت "ظاهرة" على الرغم من الأعداد المخيفة لحالات الانتحار، إلا أنها تظل نسبة ضئيلة. ويعتقد الدكتور عبد العظيم العمري رئيس حركة الإصلاح بصنعاء، ومختص بعلم النفس، أن مدى قيمة حياة الإنسان عند مجتمع ما، يقاس بالمشكلات التي تهدد تلك الحياة باعتبارها ظاهرة، أو أنها لازالت مشكلة، وقال "في المجتمعات الغربية وتحديدا في الولاياتالمتحدة أطلقوا وصف "ظاهرة" على مشكلة أودت بحياة أربعة أشخاص فقط، بينما في اليمن 500 حالة انتحار مثلا في عام 2002، ولا نطلق عليها ظاهرة لأن قيمة حياة الإنسان عندنا ما زالت رخيصة". مشاهد صادمة وحكايات نازفة على الرغم من أن اليمن مجتمع محافظ، ونسبة التدين عالية نسبيا، فإنه شهد خلال السنوات الأخيرة "رجّات وخضات" عنيفة اختلت بسببها عناصر كثيرة تدخل في تراكيبه، وتجلت في عدد من المظاهر لعل أشدها قسوة حالات الانتحار، التي تفنن مرتكبوها بالأساليب التي استخدموها ليكتبوا بها خاتمة حياتهم. ثمة قصص كثيرة تثير مشاعر مختلطة من الذعر، والشفقة، والحزن، والغضب أيضا، عن الحالات التي قفز أصحابها إلى "العدم"، ثمة مواطن في مديرية حرض بمحافظة حجة أقدم على قتل نفسه طعنا بالسكين أمام هيئة محكمة المديرية، احتجاجاً على قرار رفض إعادة زوجته إليه، بعد أن كان قد طلقها طلاقا بائنا، وآخر في محافظة لحج انتحر بإحراق نفسه أمام أحد محطات بيع الوقود، وامرأة في ال (50) من العمر تقريبا، من محافظة حجة أقدمت على الانتحار، بتناولها مادة سامة، تستخدم كمبيد حشري وهو من أقوى المبيدات الحشرية المستخدمة في زراعة القات، وشاب في منطقة مذبح شمال صنعاء، انتحر بعد أن صب كميات من البنزين على جسده، وبجواره ثماني اسطوانات غاز، وشاب آخر عمره 30 عاما نصب لنفسه مشنقة في إحدى غرف منزله بمنطقة القادسية جنوب صنعاء، وأغلق الباب على نفسه بإحكام، ثم انتحر ولم يعلم الجيران بالحادث، إلا بعد أيام بسبب رائحة تعفن الجثة.