قال عبد المنعم سعيد، المفكر السياسي، وعضو المجلس القومي لمكافحة الإرهاب، إن ثورة يناير 2011، وما تبعها من تطورات حتى ثورة يونيو 2013 دفعت بالسياسة مرة أخرى إلى المقدمة، ولم تكن كلاما وإنما توجهات وانحيازات سياسية واجتماعية، وتعريفات مختلفة للمصلحة العامة، وتصورات مختلفة لمستقبل البلاد والطريق الذي عليها أن تسير فيه، مشيرًا إلي أن ذلك كان السبب الرئيسى فى رفض الحكم الدينى وتغيير الهوية المدنية للدولة، ووحدة عناصر الأمة المختلفة على خريطة طريق سياسية من أجل انتقال الدولة إلى الديمقراطية. وأضاف "سعيد"، في مقال له بصحيفة "المصري اليوم"، بعنوان "العجز المدني"، أن بلورة دستور 2014 الذى رغم ديمقراطيته وليبراليته الواضحة، فإن تطبيقه كان يجرى تحت وطأة الإرهاب وما أوقعه على الدولة من تهديد مستمر، ورغم أن ذلك كان ممكنا أن يكون سببا فى تكوين جبهة وطنية واسعة لمواجهة الخطر إلا أن الطبيعة التفتيتية للجماعة المدنية، فضلا عما زاد عليها من هوى «فيسبوكى» جعل وسائط التواصل الاجتماعي تحل محل السياسة فى التعبير عن التفاصيل الآنية للعملية السياسية سرعان ما خلق حالة من الإحباط والانسحاب فى جانب، ونوعا من الهواجس والتوجس على مصير الدولة على جانب آخر. كل ذلك كان ممكنا التعامل معه لو أن مؤسسات الدولة المختلفة التى تعبر شكلا عن العملية السياسية مثل البرلمان والأحزاب والجمعيات والإعلام قامت بواجبها فى تدشين الحوار السياسى والمجتمعى، إلا أنها فى الواقع لم تقم بهذه المهمة، وأحيانا تدهور بها الحال لكى تتحول إلا حالات «فيسبوكية» فى الفعل أحيانا، ورد الفعل فى أحيان أخرى. وتابع سعيد، أن النتيجة أنه صارت لدينا مؤسسات تشبه تلك المؤسسات الموجودة فى البلدان الديمقراطية، ولكنها لا تقوم بنفس وظائفها، ولا تعمل وفق التقاليد والقواعد التى تنظم عملها فى تجميع المصالح وتنظيم المطالب والفصل بين السلطات الثلاث ووظائفها. ولم يخل الأمر أحيانا من الضجر وغياب الصبر على الزمن الضرورى لإنضاج عملية سياسية طال زمن نضجها لأنها لم تعط الفرصة الكافية لكى تتطور بطريقة طبيعية. وبينما بدا الأمر للقائمين على إدارة البلاد أن المؤسسات المدنية لا تضع «الدولة» وبقائها فى مكانها الصحيح داخل الحسابات العامة، فإن نموذج السياسة لدى جماعات غير قليلة استمد دروسه من تجارب يناير ويونيو من حيث لم تعد السياسة وسيلة لإدارة الدولة واتخاذ القرار فيها، وإنما عملية نضالية لا تكون فيها العلاقات تنافسية وإنما «خصومة» تكون العلاقات فيها صفرية إذا كسب فيها طرف كان الطرف الآخر خاسرا بالضرورة. التفسير هنا أنه فى اللحظات الحرجة للشعوب من ثورات أو حروب فإن الشخصية الخاصة «بالمنقذ» تعطيه نوعا من المنعة الانتخابية تكررت فى أمثلة تاريخية مثل جورج واشنطن ونيلسون مانديلا وبشكل ما مع روزفلت؛ وربما كان الاستثناء على هذه القاعدة هو ما جرى لوينستون تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية الذى خسر منصبه وكان فيها منقذا ومنتصرا، ومع ذلك فإن التفسير التاريخي على هذا النحو قد يقدم بعضا من التفسير وليس كله، فالمعضلة المصرية ليست فقط فى تقديم مرشحين للانتخابات الرئاسية، وإنما فى حالة التلعثم فى كل مرة يكون فيها ضروريا تقديم تشكيل لوزارة جديدة، أو تعيين لمحافظين جدد، أو اختيار لرئيس وزراء أو حتى لمناصب ووظائف حيوية أخرى في هيئات عامة، ما يشير إليه التاريخ المعاصر حتى فيما قبل ثورة يوليو 1952 هو أن الهيئة المدنية العامة للشعب المصري أصابها درجات عالية من التفتيت والنزعات الانقسامية لأسباب فردية أحيانا، وفكرية أحيانا أخرى. وفى أحيان باتت خسارة طرف ممكنة طالما أنها سوف تؤدى إلى خسارة الطرف الآخر؛ فكانت عملية الانسحابات المتتالية من العملية الانتخابية رغم ما فيها من خسارة الهدف المطلوب تحقيقه بالمنافسة على الانتخابات الرئاسية يقصد بها النكاية وإحراج الدولة داخليا أمام شعبها، وخارجيا أمام شعوب العالم. وحتى عندما تجمعت قوى سياسية حول السيد خالد على فإن برنامجه الانتخابى القائم على جود دولة بيروقراطية تدخلية فى الاقتصاد والمجتمع لم يمس أيا من الأعصاب الديمقراطية فى هذه القوى، بل إنها كانت هى ذاتها التى دفعته دفعا للخروج من الساحة لأن الخروج من العملية كلها والدفع فى اتجاه المقاطعة بدا أكثر ربحا طالما أنه ربما يؤدى فى ظنهم إلى انهيار المعبد على رؤوس الجميع. لم يكن ممكنا التعامل مع ذلك كله دون عملية تدريب سياسية صلبها ليس فقط التعليم والمعرفة، وإنما أيضا الممارسة فى الواقع خلال الدورات الانتخابية، وتقوم بها السلطة السياسية متعمدة وبشكل مباشر خاصة وهى التى تملك الأغلبية الجماهيرية، ولديها قصة غنية بالنضال والإنجاز تكفيها لكى تأخذ بالبلاد إلى بر الأمان. تجارب اللحظات الانتقالية الحرجة من عدم الاستقرار إلى الاستقرار، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الميدان إلى البرلمان، يتحمل مسؤوليتها جميع أطراف اللحظة السياسية كل فيما يخصه: السلطة السياسية فى قدرتها على إتاحة الفرصة؛ والمعارضة السياسية فى إمكانيتها على مواجهة عجزها الانقسامى، وقدرتها على عبور الطريق من الثورة إلى الدولة.