• يقولون إن العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء والعقول الكبيرة تناقش الأفكار . • بعض فترات التراجع والانكسار الحضارى قد تفرض نفسها وتفرض ما فيها من تخلف وتراجع على مصادر التكوين الثقافى فتجفف فيه منابع الحياة والحركة. • والفترات الزمنية التى يحدث فيها ذلك غالبًا ما تكون نتيجة طبيعية لحالة الاستبداد والقهر التى يعيشها المجتمع حيث تقتل فيه المواهب وتضمحل العقول، وتكثر العاهات الفكرية والثقافية، وحينئذ يسود فى المجتمع أصحاب الحظوة ويتولى التوجيه وصياغة الرأى العام إما الكاهن الخبيث، وإما التافه الساقط، ولكل منهما دوره فى خدمة الفرعون أو الطاغية سيده وولى نعمته. • الطاغية الفرعون أو الفرعون الطاغية لديه من خبث الخبرة وتجارب السنين ما يجعله يصنع من دوائر المنفعة والمزايا المتعددة لخدمه وحاشيته والمحيطين به مايربطهم بخدمته ويجعلهم تحت نعاله كلما هم بشىء. • ارتباط الخدم بالفرعون هنا يتجاوز حدود الخدمة ليصل إلى حد الولاء المطلق فى المنشط والمكره وكأنها بيعة على الحياة والموت وإلا ذهبت المصالح وانفرط العقد وضاعت كل المزايا. • فى مثل هذه البيئة لاتجد للأفكار العظيمة سوقا ولا تجد للقيم الرفيعة عشاقا وروادا • إنها بيئة جلاد يرى أن من حقه أن يفعل ما يحلو له فهو وحده الذى يسجن من يشاء ويقتل من يشاء ويقرب من يشاء ويبعد من يشاء وعصاه دائما جاهزة لكل شاة شاردة. • ويبدو أن فترة التراجع السياسى والثقافى التى عاشتها مصر خلال العقود الثلاثة الماضية خلفت لنا عقولا من النوع الصغير الذى لا يهتم إلا بمناقشة الأشخاص ويكتفى إذا أحسنا الظن به بظاهر عالم الأشياء ولا يتجاوز ذلك، أما عالم الأفكار والرؤى والتصورات التى تتجاوز الواقع وتخطط للمستقبل البعيد فلا اهتمام بها ولا عناية. • الباحث يلحظ ذلك فى الفضائيات التى تملأ السماوات المفتوحة بحناجر ما يطلق عليهم النشطاء والمحللون والباحثون فى الاستراتيجيات.. والخبراء الأمنيون والفقهاء الدستوريون، وهلم جرا. • هذه الطفيليات تطور أداؤها إلى الأسوأ وكونت فرقًا أشبه ما تكون بقوافل الجراد القادم من الصحراء ليأكل الزرع والضرع، وكانت الصحف والفضائيات هى البيئة المواتية للتفريخ والتوالد • الجيل الجديد من الصحفيين يضم عددًا لا بأس به من الشرفاء الصادقين، لكنه أيضا يضم كثيرا ممن تربوا على التلفيق والكذب وفبركة الأخبار التى تتناول حياة الناس وتنتهك خصوصياتهم بل وتحاول أن تزج بهم فى قضايا لم يسمعوا بها ولم يكونوا طرفا فيها فى يوم من الأيام. • بيئة النفاق المواتية يتخلق فيها هذا النوع من الكائنات الصحفية الشائهة التى تكذب وتكذب وتكذب حتى تستمرئ الكذب وتستطيب رائحته النتنة وتتعايش معه وتتنفس به كما يتنفس البشر الهواء فى صدورهم شهيقا وزفيرا. • مصانع الكذب هذه كانت تخدم فى الماضى على مؤسسة الرئاسة وتنال من حياة كل معارض وبعض أقسامها كانت مسكونة برجال أمن الدولة يديرونها فى السر والعلن دون خوف أو ملام. • الغريب أنها انتقلت مع الرئيس الجديد لموقف النقيض فحاولت أن تنال منه فى أول يوم من ولايته حين اتهمته بأنه يكرر ما فعل مبارك فيكلف ولده بلقاء مسئول تونسى كبير هو راشد الغنوشى فى مطار القاهرة ويهديه نيابة عن والده قلادة النيل بينما تعقد لأخيه الأصغر لجنة خاصة فى امتحانات الثانوية العامة. • الفرية على أبناء الرئيس جاءت فى صدر صحيفة الأخبار والوفد والوطن. • ويبدو أن الفضيحة سالت من ماسورة الديمقراطية التى انفجرت دون رقيب من خلق فى عقول البعض، فصاغت هذه الأكاذيب وضمت إليها أكذوبة أخرى على حرم الرئيس دون حياء أو خجل. • الواقعة المكذوبة والتى تمثل عينة من طوفان الكذب القادم من رحم النظام المخلوع لاقت صدى لدى بعض النشطاء من الذكور وأشباه الذكور على مواقع التواصل الإلكترونية فنضحت نفوسهم الخسيسة بما فيها قبل أن يستوثقوا من صحة الخبر. • الطفيليات الثقافية هذه لعبت فى العصر البائد دورا خسيسا فى تشويه الحركة الإسلامية على اختلاف تياراتها حتى صنعت منها بعبعا مخيفا يثير القلق فى الملتقى بمجرد ذكرهم. • قنواتنا الفضائية ليست مثل قناة فالوب ففى قناة فالوب يتم نقل البويضات من المبيض إلى الرحم، ويتم إخصاب البويضات بالحيوانات المنوية فيتولد عن ذلك مولود سوى يأتى إلى الحياة بعد فترة الحمل، أما فى قنواتنا الفضائية فيتم فيها تخصيب من نوع آخر، أنه ليس تخصيب اليورانيوم وانشطار المواد المشعة، إنما هو تخصيب الكذب، فالكذبة بعد التخصيب تنشطر على نفسها فتولد كذبة أخرى تبدأ صغيرة ولكنها تنمو بالنميمة لا بالنمو الطبيعى. • بائعات الهوى فى المجتمعات المنحلة لهن ضوابط لا بد أن تلتزم بها من تمتهن تلك المهنة الخسيسة، وفى المجتمعات التى تحترم مواطنيها وتحترم قيمها وثوابتها يعتبر الكاتب رائدا فى التوجيه وصياغة الرأى العام، والثقافة بكل فروعها تشكل مصانع للعقول والوجدان، وهى التى تدرب أفراد المجتمع وعناصره المختلفة على احترام النظام العام وحماية الحقوق والحريات، وتضع بدستور شرف الكلمة وقدسية الحرف المضىء الضوابط الفاصلة بين الحرية والفوضى وبين الحق فى الحصول على المعلومة وضوابط استعمالها. • هذه المعانى الكبيرة يبدو أنها غريبة على بعض المنتسبين زورا للمهنة الراقية والشريفة فى عالم صاحبة الجلالة "مهنة الصحافة" • صاحبة الجلالة فى بلادنا ذهب البعض بمهابتها وأهدر البعض قيمتها وحط البعض من شرفها حين اختلط فى حقلها حبر الكاتب وحبر الكتبة، والفرق كبير بين المعنيين. • الكاتب حر ومؤمن بقدسية الحرف المضىء وبأن الكلمة الشريفة لا تقتلها ألف قذيفة، ولا يبيعها صاحبها بملء الأرض ذهبا ولا يخشى فى قولها ملء الأرض حرابا أو عذابا، ولأن الكلام صفة المتكلم ومن ثم تكون معاناة الكاتب، لأن الكلمة حين تنطلق من قلمه إنما هى جزء منه لها قداسة نفسه وطهارة خلقه وجمال خلقته، ومن هنا تكون تعبيرا صادقا عن نفس صاحبها. • الإساءة إلى هذه المهنة الإعلامية الشريفة يجب أن تتوقف لأن استمرارها يخلق نوعًا من العهر الصحفى لا يقل فى خطورته وحقارته عن الاعتراف ببائعات الهوى فى المجتمعات المنحلة. • الدعارة الثقافية التى سقطت بمفهوم الإعلام وأساءت إليه ووضعت سمعته فى الحضيض وجعلت أكثر المنتمين إليه فى الدرك الأسفل من النار إلا من رحم الله يجب أيضًا أن تتوقف ولن تتوقف إلا إذا تخلص الإعلام من كل من احترف الكذب من سنين، وفقد الشعور بالخزى لأنه تعود عليه وأدمنه، وأضحى يتنفسه فى الصباح والمساء ومن ثم فقد تبلغ به الوقاحة حدا تجعله لا يكتفى فى كذبه باللمز والغمز، وإنما يمارس الكذب المباشر، من نوع طويل التيلة شديد السواد وثقيل الأوزار والجرم. وممزوجا بخسة لا تجد لها فى قواميس الوضاعة شبيها أو نظيرا • من باب الاعتراف بأن فى كل محنة منحة نعترف أن بعض هؤلاء الكذابين لهم الفضل فى إقناعنا أن الموتى يمكن أن يبعثوا من جيد قبل يوم القيامة، فتسطيع مثلا أن ترى على شاشة إحدى الفضائيات مسيلمة الكذاب والأسود العنسى وسجاح وطلحة بن خويلد الأسدى وغلام أحمد القديانى. • وكان هؤلاء يجدون من المغفلين من يستمع إليهم، البعض يستمع بقصد التسلية وحب الفكاهة والنظر إلى مخلوقات مختلة من الناحية النفسية والعقلية، لكن البعض الآخر قد يقع حسبما يدفعه حظه التعيس إما إلى مسيلمة الكذاب، وإما إلى سجاح العصر الحديث تلك ترتقى سلم العمل الجامعى وترتدى ثوب المحللة السياسية فترسل تحت ستر موقعها الجامعى رسائل الخوف بتخاريف لا يقبلها عقل أو منطق، وشعارهم اكذب واكذب واكذب واستمر فى الكذب حتى يصدقك الناس. • النظرية ساقطة، لكن أصحابها يصرون على التكرار الممل والادعاء الرخيص ظنا منهم أن الباطل يمكن أن يتحول حقاً وأن الشر يمكن أن ينقلب خيرًا. • أتذكر مقولة الكاتب الساخر جلال عامر حين قال: (أعلم أن المنافقين فى الآخرة فى الدرك الأسفل من النار ولكنهم فى بلادنا فى صدر صفحات الصحف اليومية). Email: dribrahim@muftiofaustraliacom