من عباد الله تعالى من هو صادق لا يستطيع كذبًا ولا يحبه، فلا يعرف لسانه إلا الصواب، ولا ينطق عليه ولا على غيره إلا بالحق/ ومنهم الكاذب الضعيف الذي يتورط أحيانًا مضطرًّا لذلك؛ هربًا من موقف، أو خجلاً من مواجهة!/ ومنهم الكذّاب الفاجر في الكلام، الخبير في الكذب، المتفنن في التلفيق والتعمية، الذي يكون الكذب له سجية، حتى إن الأكذوبة المحبوكة - التي تبدو صدقًا - لتتهادى من فمه بيسر وسهولة، لا يضج منها ضميره، ولا يهتز جفنه! ومنهم (أبو لمعة) ذلك الفشار الذي يتمادى به الكذب، حتى يبالغ بشكل أبعد من أن تصدقه فيه العقول! يظن ذلك ذكاء، واقتدارًا، وقدرة على تسيير الأمور، ووسيلة فعالة للتسلق والوصول، ومخادعة الآخرين! وما أكثر (النكت) عن هذا الصنف من البشر! يحكون أن اثنين من الفشارين تفاشَرَا، فأطبق أحدهما يده وسأل الآخر: إيه اللي أنا ماسكه في إيدي؟ فقال الآخر بسرعة: حصان! فقال: مين اللي عرّفك؟ أكيد انت شفت رجله! وذات فشرةٍ قال أحدهم إن المخلوع أيد الثورة ضد نفسه! وإن شعبنا مفترٍ جاحد لا يقدِّر جميل من أحسنَ إيه ثلاثين سنة، وأن خلاعته عاش خلالها عدوًّا لدودًا لإسرائيل، صديقًا حميمًا لمِصرائيل! تصور! والكذاب الفشار رجل مقيت مؤذٍ، يُحسن الافتراء، وتوريط الناس، و(تدبيسهم) فيما هم برآء منه، دون أن يطرف له جفن، أو يحمر له أنف، أو يجِلَ له قلب! وهو معدود في المنافقين عمليًّا – بل هو من ساداتهم وأستاذيهم - كما أن تفننه في الكذب، وتحريَه إياه، سيجعله من الفجرة، ويلقي به في جهنم؛ [فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب؛ حتى يكتب عند الله كذابًا] نعوذ بالله من الكذابين، والفشّارين، والميّاسين، والخرّاطين، والمعّارين، والمزَّاعين. لكن دعونا نسأل؛ من منظور (بسيولوجي) بحت: لماذا يكذب الآدمي، ويتفنن في الكذب؟ هل لأنه دنيء بالفطرة؟/ هل يستر - بكذبه - جوانب ضعف يخشى ظهورها؟/ هل يتوهم أنه مستطيع بالكذب أن يسابق أقدار الله تعالى؟/ هل يعتقد أنه بذلك يحرك الأحداث، ويصنع النتائج؟/ هل يجد فيه متعة وإثارة لا يحسها مع الصدق واستقامة اللهجة؟/ هل تحول إلى مدمن، لا يطيق فكاكًا من (الفشر، والمزعِ) والمبالغة، والتهويل؟! كل هذا - وغيره جائز - لكن العقلاء في كل زمان ومكان يتفقون على أنه داء أخلاقي، وسقوط في المروءة، وذنب سيحاسب الله تعالى أصحابه عنه! الغريب أننا جعلنا في عصرنا هذا من الكذب فضيلة، وجعلنا بعض الكذابين قادة للخير والصواب، والمضللين نجومًا يُهتدى بها في ظلمات الأفكار والقيم؛ رغم آلاف الأدلة التي تؤكد أنهم (كدابين في أصل وشهم) ورغم أنهم في كثير من الأحيان يقولون إنهم يكذبون، بل ربما لم يكونوا في منتهى الصدق إلا حين يقولون إنهم يكذبون! = ألم تر إلى ذلك الرجل الفشار الذي كان يتكلم عن حقوق الإنسان، ورعاية أميركا لها، والتصدي للدكتاتوريين المنتهكين لها، ثم قال - لما (زنقته) بعض وسائل الإعلام -: أيوه احنا بنكيل بمكيالين، وربما أكثر من مكيالين؛ تبعًا لمصالح دولتنا العظمى نَمبر وَن؟ = ألم تر إلى الكذوب الذي يزعم أنه يحافظ على حقوق البشر، وجنوده يهتكون الأعراض، ويهينون الرجال، ويعذبون الأطفال، ويهلكون الحرث والنسل، باستخدام الفوسفور الأبيض والنابالم والأسلحة البيولوجية، وكل ما يُهلك الناس ويمكث في الأرض؟ = ألم تر إلى الكاتب الخراط الذي يتحدث عن عهود الحرية والرخاء والاستقرار، والنهضة الحضارية غير المسبوقة التي عاشها شعبه، في ظل سيادة الخليع الملهم اللي مفيش منه، وانتشار أمراض السمنة والنقرس بسبب كثرة أكل اللحم، وشعبه التعيس لا يجد الخبز، فضلاً عن اللحم، فضلاً عن حبة من الفاكهة، ناهيك عن وظيفة تُطعم، ومسكن يستر، وزوجة تُعف، وأمل في الحياة النظيفة؛ ولو بعد قرنين من البتاع! = ألم تر إلى (المزّاع) الذي يزعم التنوير بالإعلام، والرقي بالعقول بالأفلام، وقيادة الشعب عبر تلفزيونه الرسمي الذي لا يقدم تلفزيونه إلا الكليبات الساخنة، والسهرات الماجنة، والريبورتاجات التافهة، والتغطيات المضللة، متجاهلاً أن الأمة تنهض بالعقول لا بالطبول، وبعصف الذهن لا بهزّ البطن، وبالاستقامة والشرف لا بالفساد والقرف؟! = ألم تر إلى (المرَّاع) إلى الذي يزعم الحرص على الدين، والانتساب إلى المنهجية، والغيرة على الحقيقة، ومقاومة التشدد، وهو يمسك بمائة معول يضرب بها الدين في أساسه، ويدك منه الأركان؛ فإذا أردت أن تلفت نظره إلى شيء من الحق والمنهجية، مسح بك الأرض، واستنفر ضدك كل الجراد والضباع والأفاعي؟! = ألم تر إلى الرقاصة المياسة، التي تَعرَى بتطرف وإفحاش، وتقول بمنتهى الإخلاص والتدين: (اللي يبان مننا زِكا عننا) فإذا قلت لها: اتقي الله يا رقاصة، سبتّك و(بهدلتك) وحدثتك عن جدها الأزهري، ووالدها اللي حج خمستلاف مرة، وصلاة الفجر التي تحرص عليها إذا هي عادت من الكباريه! وأكدت لك أنها فنانة مش رقاصة، وأنها أشرف ألف مرة من سيادتك، ومن كل المتحجبات اللي ربنا خلقهم، من أول أمنا حواء عليها السلام للنهاردا؟! الأغرب أننا لم نجعل من الكذب فضيلة فقط؛ بل جعلنا له يومًا نستحل فيه الكذب، ونلونه بلون البراءة والنقاء (كذب أبيض) مع أن الكذب لا يكون أبدًا أبيض، كما لن يكون الملح سكرًا؛ إذا كتبنا على الوعاء الذي يحتويه: (سكر مكرر). والأكثر غرابة من هذا أننا اخترعنا وظائف للكذابين، ومنحناها أسماء براقة، ورواتب مجزية، ومكاتب فاخرة، ووظفنا فيها (بنات زي الشربات)، مهمتهن أن يقنعن الزبون - بلباسهن المفتوح، ووجوههن اللي تدوّخ العابد، ولهجتهن (اللي يقطع حريشهنْ عليها يا زلمي) يقنعن الزبون أن البضاعة أوكي مية مية، أو يؤكدن للمُراجع اللي داخ سبع دوخات، أن البيه المدير مشغول وعنده اجتماع مهم، أو أن مجلس الأمن سيتولى القضية، ليدوِّلها، ولتحل بعد أسبوع واحد! وياما سمعنا من الكذابين - سوري - من بعض المتحدثين الرسميين، ومن السكرتيرات، ومندوبي المبيعات، والإعلاميين، وأشباههم من صناع الأكاذيب الضخمة، التي تجعل من إبليس مجرد تلميذ صغير، في أكاديمية الفشر الأبيض والأسود والتكنيكَلر! ولبعض خبراء الكذب هؤلاء قدرة عالية جدًّا على إطلاق الكذبة ونقيضتها في دقيقة واحدة، دون أن يبالي إذا أدرك الناس أنه فشارٌ أم لا، ونرى هذا كثيرًا في صحفيي (حبسك عليه) الذين ليست لهم مهمة - إذا أُمروا - إلا أن (يُحبسكوا) ويبالغوا في تمريغ سمعة أحد الأشخاص في الوحل، وبهدلته، ومرمطته، واختراع أنواع من الأكاذيب يتعجب منها إبليس! فإذا عادت المياه إلى مجاريها بين هؤلاء المغضوب عليهم، وبين أولئك الضالين، وأمرهم أسيادهم أن يصالحوا في اليوم التالي، تراهم بمهارة عجيبة يتحدثون عن المسامحة، وحق المفكر، وحرية التعبير، وإعطاء العيش لخبازينه، وإنصاف الكبار، وضرورة إيقاف الحملات الظالمة! وكثيرًا ما كنت أقرأ هذا، وأهتف بمرارة تكاد تنفجر: آه يا ولاد ال......! ألم تر إلى (المتحولين) الذين كانوا يكتبون القصائد في عيون الخليع وديمقراطيته، وحسين سالم ونزاهته، والعادلي وعدالته، والشريف وطهارته، ثم عادوا – هم أنفسهم، وعلى الشاشات ذاتها – يلعنون أيامهم السودة؟ لماذا هم على الشاشات حتى الآن يا إعلام الحلنجية!؟ لماذا؟ ألم تثر مصر كلها عليهم!؟ ولا أحتاج فيما أظن إلى القول بأن الكذب حرام، وبأن المؤمن لا يكون كذابًا، وبأن الكذب عيب في الآدمي كالخيانة والسرقة ولؤم الطبع. لكن ربما أحتاج إلى أن أقول إن شر أنواع الكذابين هم الذين يكذبون على الله تبارك وتعالى، والذين يقولون عليه عز وجل ما لم يقل، ويشرعون غير ما شرع، وينسبون إليه ما لم يأذن، وياما فعل الآدميون ذلك، خصوصًا في المائة سنة الأخيرة! يا حسرتا على هؤلاء حين يفضحهم الله تعالى يوم القيامة - من دون البشر - على رؤوس الأشهاد، ويعرفهم الناس في الآخرة بسيماهم، ويشيرون إليهم في الموقف: (الكذابين أهمه)! فإذا كان أهل الوضوء يُعرفون بنور وجوههم وأيديهم وأرجلهم، ويستدل عليهم الحبيب صلى الله عليه وسلم، حين يراهم غرًّا محجلين من أثر الوضوء، فإنك وأنا وكل أحد من البشر سنعرف الكذابين على الله تعالى ب.... بإيه؟ خمن معي؟ سنعرفهم من وجوههم المسخمّة، المدهونة بالهباب، فتأمل قوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوهُهم مسودة، أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين}! ألم يقل الله تعالى إن ألوان وجوه الناس يومئذٍ ستكون على لونين: أبيض منيرًا مزهرًا، وأسود مربادًا كئيبًا مفجعًا؟ ألم نقرأ قوله تعالى: {يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه؟} بعد حديث ضافٍ عن الكفر، وعن الذين يصدون بمناهجهم عن سبيل الله، وعن طاعة الآخرين، وعن التقوى، والاعتصام بحبل الله، ومعرفة المعروف، وإنكار المنكر، والاجتماع على كلمة سواء! الكذب من أجل شوية دولارات أو يوروهات ليس هو الخطير، بل الأخطر والأدهى من الفلوس والأشياء، هو الكذب على الأمة وتضليلها/ الكذب لإدخال العدو خلايانا، وإسكانه بين ضلوعنا/ والكذب لتمرير قيم هابطة، أو مبادئ هامة، أو أخلاق منحلة/ الكذب بتزيين توثين البشر، وفرعنة الناس، والتطاول على الخالق البارئ المصور ذي الأسماء الحسنى والصفات العلا، جل في علاه. أنا متأكد أن من الكذابين من هذا الصنف مَن سيحمر وجهه، ويشتعل قلبه، ويقول: يخرب بيوتكم.. اسكتوا شوية.. احنا ناقصين؟! وسأقول: أيها الكذاب، أقلع قبل يوم الحساب، وإلا فآخرة سيادتك منيلة بنيلة، ومن ربك يا ويلك، ويا سواد ليلك! _______________ يقول أحمد مطر في قصيدته: اعترافات كذاب: بِملءِ رغبتي أنا ودونَما إرهابْ/ أعترِفُ الآنَ لكم بأنّني كذَّابْ! وقَفتُ طول الأشهُرِ المُنصَرِمةْ/ أخْدَعُكُمْ بالجُمَلِ المُنمنَمةْ/ وأَدّعي أنّي على صَوابْ وها أنا أبرأُ من ضلالتي/ قولوا معي: اغْفرْ وَتُبْ يا ربُّ يا توّابْ! قُلتُ لكُم: إنَّ فَمْي في أحرُفي مُذابْ/ لأنَّ كُلَّ كِلْمَةٍ مدفوعَةُ الحسابْ/ لدى الجِهاتِ الحاكِمةْ! أستَغْفرُ اللهَ.. فما أكذَبني!/ فكُلُّ ما في الأمرِ أنَّ الأنظِمةْ/ بما أقولُ مغْرَمة/ وأنّها قدْ قبّلتني في فَمي/ فقَطَّعتْ لي شَفَتي مِن شِدةِ الإعجابْ! أوْهَمْتُكمْ بأنَّ بعضَ الأنظِمةْ/ غربيّةٌ لكنّها مُترجَمة/ وأنّها لأَتفَهِ الأسبابْ/ تأتي على دَبّابَةٍ مُطَهّمَةْ/ فَتنْشرُ الخَرابْ/ وتجعَلُ الأنامَ كالدّوابْ/ وتضرِبُ الحِصارَ حولَ الكَلِمةْ! أستَغفرُ اللهَ فما أكذَبني!/ فَكُلُّها أنظِمَةٌ شرْعيّةٌ جاءَ بها انتِخَابْ/ وكُلُّها مؤمِنَةٌ تَحكُمُ بالكتابْ/ وكُلُّها تستنكِرُ الإرهابْ/ وكُلّها تحترِمُ الرّأيَ وليستْ ظالمَة/ وكُلّها معَ الشعوبِ دائمًا مُنسَجِمةْ! قُلتُ لكُمْ: إنَّ الشّعوبَ المُسلِمةْ/ رغمَ غِناها .. مُعْدمَة: وإنّها بصوتِها مُكمّمَة/ وإنّها تسْجُدُ للأنصابْ/ وإنَّ مَنْ يسرِقُها يملِكُ مبنى المَحكَمةْ/ ويملِكُ القُضاةَ والحُجّاب! أستغفرُ اللّهَ .. فما أكذَبَني!/ فهاهيَ الأحزابْ/ تبكي لدى أصنامها المُحَطّمةْ / وهاهوَ الكرّار يَدحوْ البابْ/ على يَهودِ الد ّونِمَهْ/ وهاهوَ الصِّدّيقُ يمشي زاهِدًا مُقصّرَ الثيابْ/ وهاهوَ الدِّينُ ِلفَرْطِ يُسْرِهِ قَدْ احتوى مُسيلَمة!/ فعادَ بالفتحِ.. بلا مُقاوَمة/ مِن مكّةَ المُكرّمَةْ! يا ناسُ لا تُصدّقوا فإنّني كذَابْ! [email protected]