انتخابات الرئاسة عام 2012 تُخّلد نفسها حتى الآن أيقونة للانتخابات منذ عرفت مصر الاستفتاءات والانتخابات الرئاسية، فقد توفرت لها شروط الانتخابات الحقيقية المقنعة، وجرت وفق معايير وآليات الديمقراطية في العالم الحر. كنت أتمنى أن يكون الاستحقاق التالي لها في 2014 أفضل من السابق عليه أداء وممارسة ديمقراطية وبيئة سياسية حرة تنافسية عادلة ، لكن هذا لم يحدث، وإذا كانت الظروف فرضت نفسها آنذاك لتخرج بالشكل الذي خرجت به وعليه من تنافس محدود جداً، وفي مناخ يدفع لدعم وتأييد مرشح معين "السيسي"، وظهور المرشح الوحيد المنافس له "حمدين صباحي" لأداء دور حتى لا تتحول الانتخابات إلى استفتاء مثل كل الاستفتاءات منذ تأسيس الجمهورية عام 1953، فإن أربع سنوات كانت كفيلة باستعادة فكرة ديمقراطية الانتخابات شكلاً ومضموناً ليكون الاستحقاق الحالي 2018 استئنافاً لمسار انتخابات 2012 في سياق البناء الديمقراطي الذي هو الأهم في التأسيس لدولة جديدة، وهو الأهم من الحرص على تصدير شخص معين للواجهة، وجعل فوزه ليس شبه مؤكد فقط، إنما هو المؤكد بعينه. الديمقراطية، وتراكمها التاريخي، وارتفاع سقفها، وثبات قواعدها وأركانها، هو الأهم في خروج مصر من حالة شبه الدولة إلى حالة الدولة الراسخة المتقدمة الحرة، وكذلك في أي دولة أخرى بالعالم، الأشخاص ومهما كانت قيمتهم وقدراتهم وأدوارهم وتاريخهم وعظمتهم وما يُعول عليهم القيام به زائلون، أما الدولة القائمة على أسس صحيحة من الدستور والقانون والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحقوق فهي الأبقى، ولا تزول أبداً، وقد تواجه أشد العواصف خطراً دون أن يهتز ركن فيها، وقد تظل بلا قيادة لشهور طويلة دون أن تتعثر أو ترتبك. ألمانيا بلا حكومة ثابتة منذ الانتخابات التشريعية في 24 سبتمبر الماضي بسبب تعذر تشكيل حزب واحد للحكومة الجديدة، وأيضاً تعذر تشكيل ائتلاف حزبي، والمستشارة ميركل وحكومتها القديمة تقوم بدور تصريف الأعمال، لكن مع ذلك تظل ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، والاقتصاد الرابع عالمياً، وتظل هي القوة السياسية المحركة للاتحاد الأوروبي، وكلمتها هي المسموعة فيه، كما في العالم، والاستقرار السياسي حقيقة ثابتة هناك، وكل ذلك بفضل الديمقراطية التي سمحت بفوز المتطرفين والنازيين "حزب البديل من أجل ألمانيا" ب 94 مقعداً ولم تقم حرباً، ولم تتعرض ألمانيا للانهيار، ولم تنشأ أزمة سياسية تجعل قوى الاعتدال تطلب إلغاء الديمقراطية لدرء خطر المتطرفين الذين استفادوا منها في الوصول للبرلمان، وربما يتجهون نحو دار المستشارية المرة القادمة، فوز المتطرفين أحدث فعلاً هزة سياسية وصدمة، لكن دون أن تتخلخل ألمانيا، ودون أن تسقط أو تكون مهددة بالسقوط علماً بأن ديمقراطية ألمانيا ليست قديمة ولا عريقة مثل بريطانيا والولايات المتحدة فقد بدأت مع الرايخ الرابع بعد سقوط النازية حيث جرت أول انتخابات حرة عام 1949 ومنذ هذا الاستحقاق والمواعيد الانتخابية ثابتة والديمقراطية تزداد علواً وارتفاعاً، نموذج ألمانيا عام 1949 حيث كانت في حالة يُرثى لها من حيث الدمار الهائل الذي تعرضت له ومن حيث الدمار الهائل الذي قادت العالم إليه في الحرب العالمية الثانية كان مبرراً لحكم فردي بقبضة أشد من قبضة ستالين في الاتحاد السوفيتي القريب منها والذي كان يحتل الجزء الشرقي فيها، لكن بسبب إدراك أن بناء الأوطان المدمرة لا يكون بعقل فرد واحد ولا جماعة حكم واحدة، إنما بتكاتف وسواعد وعقول وإرادة واختيارات كل فرد في الشعب فإنها أصرت على الانتخابات الحرة التنافسية العادلة كما يقول كتاب الديمقراطية في منشأه وعالمه في غرب أوروبا وأمريكا، ولذلك نهضت سريعاً، وحققت بعثاً ونهوضاً مدهشاً تتوجه اليوم بقيادة أوروبا. في نفس التوقيت، بداية الخمسينيات، أطاحت مصر بالحكم الملكي، وتولى وطنيون الحكم، واستلم الحكام الجدد بلداً سليماً حتى لو كان فقيراً ويمر بمشاكل اجتماعية، لكن لم يكن مدمراً مثل ألمانيا، وليس هناك مجال للمقارنة بين حالتها وبين حالة ألمانيا المزرية، فقد كانت الحالة المصرية مميزة كبلد متماسك قادر على النهوض دون أية عوائق ويزخر بتجربة جيدة من التطور المدني الديمقراطي والحريات، لكن إلغاء الديمقراطية، وقمع الحريات، وتجميد الإرادة الشعبية في اختيار حكامها وممثليها أوصل مصر إلى ثورة يناير 2011 حيث تدهورت الأوضاع ولم تعد في حالة تصلح للمقارنة مع ألمانيا أو كوريا الجنوبية أيضاً التي بدأت تجربتها الصناعية والتنموية بعد 1953 عقب حرب مدمرة لثلاث سنوات مع القسم الشمالي من شبه الجزيرة الكورية حدثت فيها تدخلات عسكرية دولية، الصين مع الشمال، وأمريكا مع الجنوب، اليوم قوة كوريا في آسيا لا تقل عن قوة ألمانيا في أوروبا، فهي واحدة من أربع قوى اقتصادية هائلة بعد الصين واليابان وقبل الهند أو بموازتها، الاحتياطي النقدي لكوريا يفوق ال 390 مليار دولار. إما ديمقراطية حقيقية وجادة وفاعلة والتمسك بها باعتبارها عقيدة سياسية وتوفير بيئة حرة وشفافة وتنافسية لانتخاباتها وممارساتها، وإما أننا نعيش في عالم من التزييف والخداع، وهنا لا تسأل عن نمو ونهضة وحل الأزمات جذرياً، كما لا تسأل عن إنجازات تقيم دولة عتيدة لا تهزها الريح مهما كانت عاصفة. [email protected]