كان أول لقاء لنا بالدكتور زكى نجيب محمود، نحن طلاب قسم الفلسفة بآداب القاهرة، فى العام الدراسى 55/1956، وكانت الفكرة الأساسية التى بدأ بها سلسلة محاضراته، والتى عبر عنها فى كتابه (خرافة الميتافيزيقا) الذى غيّره إلى (موقف من الميتافيزيقا)، هى أن الحكم على أى قضية بالصدق أو الكذب، يكون بترجمتها إلى سلوك عملى، ونرى ماذا ترانا فاعلون نتيجة القول بها، فإن لم نجد ترجمة عملية سلوكية، تتبدى فى وقائع وأحداث، فهى قضية موهومة.. وكان المثال الشهير الذى بدأنا نطبق فيه هذا المبدأ هو القول "بالعنقاء"، فقد يذهب البعض إلى أن لونها أحمر، ويختلف آخرون فى ذلك فيقولون باللون الأزرق، وقد يرى البعض أنها بجناحين، بينما يذهب آخرون إلى أنها بغير أجنحة.. إلى غير هذا وذاك من صور اختلاف. القول الفصل فى هذه الاختلافات بسيط للغاية، وهو بطرح تساؤل مؤداه: هل القضية أصلاً قضية حقيقية، أى هل توجد العنقاء فعلا؟ وتكتشف أن العنقاء كائن خرافى!! يبدو أن نفرًا من مثقفينا ما زالوا مختلفين حول أوضاع مختلفة للعنقاء الدينية ألا وهى "الدولة الدينية"، واستخدام هذه المقولة للترويع والتخويف، من تيار كاسح يحظى برضا الناس فى أغلبهم، بينما هؤلاء المثقفون، إذ يتواجدون بكثرة "كلامية" على شاشات التليفزيون، وصفحات الصحف، ويتواضع وجودهم العملى والفعلى على أرض الوطن، فإذ يجدون أنفسهم قلما يحظون بنسبة معقولة فى أى انتخابات، لا يجدون سبيلاً لتبرير هذا الفشل إلا بالتخويف من الإسلاميين بأنهم سوف يؤسسون دولة دينية، ونكتب، ويكتب غيرنا الكثير، ونبرهن، ويبحث كثيرون بحوثًا علمية موثقة، تؤكد ألا وجود للدولة الدينية فى الإسلام، لكنهم مصرون على الترويج لهذه الأكذوبة حتى يجدوا لهم مبررًا فى الوجود، بدلاً من أن يبحثوا عما يدعم هذا الوجود فى الشارع وفى حياة المواطنين. وأصارح القارئ بخجلى الشديد من أن أكتب فى موضوع كتب فيه مفكرون إسلاميون كُثر، لكن مثقفينا لا يكفون عن التخويف والترويع، خاصة بعد أن أثبت لهم الشعب المصرى أن فكره وهواه مع التيار الإسلامى، فى رابع عملية انتخابية منذ قيام ثورة يناير 2011. إن المولى عز وجل أرسى دعائم أبرز مبدأ مدنى ديمقراطى بالأمر بتبادل الرأى عندما قال فى الآية 159 من سورة آل عمران (...وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ..). وخصص سورة من القرآن سميت "بالشورى"، ووصف جماعة المؤمنين بأنهم يتبادلون الرأى فيما بينهم فى شئون حياتهم، فقال فى سورة الشورى (...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...). وكثيرًا ما نبه الخطاب القرآنى رسول الله (ص) بأنه "منذر" و"بشير"، وأنه ليس على الناس بمسيطر، ويطالبه بألا يُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين، لأن القاعدة هى: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، و"لكم دينكم ولى دين". وفى دراسة للدكتور محمد عمارة (الإسلام والسلطة الدينية، دار الثقافة الجديدة، 1979) مناقشة رائعة منطقية وسياسية لما ذهب إليه البعض من الإسلاميين، من "الحاكمية لله" من أن الحديث فى الفكر الإسلامى عن "حق الله"، إنما يعنى "حق المجتمع"، والقول بأن "المال مال الله"، إنما يعنى فى الحقيقة أنه "مال الأمة والمجتمع، ومن ثم فإن الحديث عن "حكم الله وسلطانه" إنما يعنى فى السياسة "حكم الأمة وسلطانها"، ومن ثم لا يكون هناك تناقض بين القول بأن يكون الحكم لله، وبين أن تكون السلطة السياسية والكم فى المجتمع الإسلامى لجماهير المسلمين. ويخطئ من يظن أن الإسلام يستخدم مصطلح "الحكم" للدلالة على النظام السياسى والسلطة السياسية العليا فى المجتمع، بينما نجد أن الاستخدامات القرآنية للمصطلح تعنى أحيانًا معنى"القضاء"، والفصل فى المنازعات، وأحيانًا أخرى "الحكمة"، أى الفقه والعلم والنظر العقلى، ولا علاقة لها بالخلافة أو الإمامة أو ما نسميه الآن بنظام الحكم، ويستشهد الدكتور عمارة بقوله تعالى فى الآية 79 من سورة آل عمران: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِى...)، فالقول بالحكم هنا يأتى بمعنى الحكمة. ولم يكن نبى الله يحيى حاكمًا سياسيًا، كما لم يكن مؤسسًا لدولة، فضلاً عن أن يكون ذلك محتملا وهو فى عمر الصبا، فيقول تعالى فى سورة مريم (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12))، ومن ثم فالحكم المقصود هنا هو الحكمة.. ولوط لم يكن حاكمًا، وفق ما نفهمه لمصطلح "الحاكم"، ووفق دلالته الاصطلاحية المعاصرة، ومع ذلك فقد أتاه الله، كما فى الآية 74، سورة الأنبياء (وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)، أى حكمة وعلم.. وهكذا. وعندما يقسم رسول الإسلام "صلى الله عليه وسلم" بأن ابنته الغالية فاطمة لو سرقت لقطع يدها، إنما كان بهذا يرسى دولة القانون والعدل. ورسول الإسلام عندما يخاطب المسلمين "كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته.."، فهو بهذا يرسى مسئولية المشاركة من قبل الجميع عن الجميع. وينقل الطبرى، عن الفضل بن عباس، مخاطبة رسول الله فى الناس: "أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو.. من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهرى فليستقد(فليقتص) منه! من كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضى فليستقد منه.. ومن أخذت له مالاً فهذا مالى فليأخذ منه.. ألا وإن أحبكم إلىّ من أخذ منى حقًا إن كان له، أو حللنى (سامحنى) فلقيت ربى وأنا طيب النفس..". وعندما يبايع الجمع من مسئولى الأمة أبا بكر إمامًا يصف الفقيه الدستورى الدكتور السنهورى عقد الإمامة بأنه عقد حقيقى، أى مستوفٍ للشرائط من وجهة النظر القانونية، ووصفه بأنه مبنى على الرضا، وأن الغاية منه أن يكون هو المصدر الذى يستمد منه الإمام سلطته، وهو تعاقد بين الأخير والأمة.. ثم يشير فى مواضع أخرى إلى أن مفكرى الإسلام قد أدركوا جوهر نظرية "روسو"، وهى التى تقول إن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطاته من الأمة نائبًا عنها نتيجة لتعاقد حر بينهما. وأى مفارقة لأى صورة من صور الدولة الدينية يمكن أن نجد أكثر من وقوف أبى بكر بعد مبايعة المسلمين له قائلا مما هو مشهور: "..إنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى..."، أى أن الأمة هى المصدر الحقيقى للسلطة، ويزيد بقوله: "أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت فلا طاعة لى عليكم..."، أى مبدأ ديمقراطى يعلو على هذه المقولة، التى انطلقت فى القرن السابع الميلادى؟!! ويقف المفكر القبطى العظيم الدكتور نظمى لوقا فى كتابه عن أبى بكر (كتاب الهلال،1971، ص 154) مبهورًا بقول أبى بكر، بعد البيعة: "أيها الناس! إنما أنا مثلكم"، فلا يعنى بذلك أنه مثلهم بشر، فقد كان محمد (ص) بنص القرآن مثلهم بشرًا، بل يعنى أنه بشر ليس له مدد من الوحى، ولا سند من العصمة. وعمر بن الخطاب، معروف بعدله وشدته فى الحق، ومراعاة احتياجات الناس، وآرائهم إلى الدرجة التى جعلته يرضخ لرأى امرأة، وضح أنها أبصرت الحق أكثر منه فقال قولته المشهورة "أخطأ عمر وأصابت امرأة"، وهو الخليفة، الحاكم! عشرات، بل ومئات البراهين المنطقية والنصوص الدينية والشواهد التاريخية التى تنفى نفيًا باتًا هذا المفهوم الذى عرفته أوروبا عن الدولة الدينية، وإذ نعترف بأن هناك أمثلة لبعض إسلاميين قالوا بما يختلف مع هذا الذى نقول، فلماذا نقصى ما نعبر عنه من الساحة، ونستحضر فقط الأمثلة السلبية؟ يبدو أن مثقفينا لا يريدون أن ينصتوا لصوت الحقيقة؛ لأن استمرار هذه الفزاعة يبرر وجودهم ومسلكهم، فكأنهم بهذا يفتاتون على الحقيقة والوطن والمواطنين، من أجل مصالح فردية، وإن ادّعوا العكس.