ما أشبه اليوم بالبارحة، فرحة طاغية وانهمار للدموع، طوفان من البشر يهتف بحماس، ويتجه نحو ميدان التحرير، وقفت النساء لتطلق الزغاريد فى الشرفات تعبيرًا عن البهجة، وفتحت المساجد أبوابها لتنطلق منها التكبيرات، ببراءة شديدة سألتنى طفلتى الصغيرة، هل اليوم عيد؟ فأجبتها بمنتهى الثقة.. نعم يا فتاتى اليوم عيد، فاليوم قد دبت الحياة فى أوصال الثورة مرة أخرى، وعاد الأمل فى مستقبل أفضل، واتسعت أحلام المصريين إلى أقصى مدى، هو بالضبط يشبه يوم الحادى عشر من فبراير العام الماضى حين رحل مبارك، ولكن الفرق هذه المرة، أن الثورة نجحت فى أن تتجنب سيناريو أعد له بعناية خلال 18 شهرًا، ليضمن فى النهاية إجهاض الثورة بطريقة ديمقراطية وبأيدى الشعب نفسه، نعم.. أقولها وبكل ثقة كانت هناك العديد من الجهات السيادية، التى درست نماذج الثورات فى العديد من الدول، ورسمت لنا نفس الطريق، الذى سارت فيه الثورة الرومانية. فى عام 1989 ثار الشعب الرومانى ضد الطاغية (شاوشيسكو)، وامتنع الجيش عن مساندته فتمت محاكمته وأعدم مع زوجته، ثم تولى السلطة فى الفترة الانتقالية أحد مساعدى (شاوشيسكو) واسمه (إيليسكو)، الذى امتدح الثورة كثيرًا، واحتفى بها فى البداية، ووعد بالكثير من الإصلاحات، ولكنه بدلاً من تحقيق أهداف الثورة؛ لجأ سرًا إلى العصابات المسلحة من أجل مهاجمة منازل المدنيين والمؤسسات الهامة، وكان نتيجة ذلك أن وقعت البلاد فى حالة انفلات أمنى رهيب -تبين فيما بعد أنه من تخطيط إيليسكو- وراح جنود الجيش يتصدون للمسلحين، الذى ألصقت بهم تهمة الارتباط بالثوار، وهو ما تسبب فى إحساس المواطنين بالهلع وانعدام الأمن، بالإضافة إلى تراجع الحالة الاقتصادية إلى أسوأ درجاتها، مما أدى لارتفاع الأسعار بشكل يعجز عن مواجهته رجل الشارع، وفى الوقت نفسه لعب الإعلام الخاضع للنظام دورًا مزدوجًا، فهو من ناحية ساهم فى نشر الذعر عن طريق الشائعات الكاذبة المتوالية، وفى الوقت نفسه راح يمعن فى تشويه صورة الثوريين، وتوالت الاتهامات بأنهم خونة وعملاء، يقبضون أموالاً من الخارج من أجل إسقاط الدولة وتخريب الوطن، وعندما أحس الثوار بأن (إيليسكو) يسعى لإجهاض الثورة نظموا مظاهرة كبيرة رفعت شعار: لا تسرقوا الثورة، فما كان من(إيليسكو) إلا أن وجه نداء إلى المواطنين الشرفاء وطالبهم بالتصدى للخونة، وقام باستدعاء آلاف العمال من المناجم وأشرف على تسليحهم، فاعتدوا على الثوار وقتلوا منهم أعدادًا كبيرة، وكانت هذه نقطة النهاية لثورة رومانيا، حيث استتب الأمر بعد ذلك ل(إيليسكو)، ورشح نفسه للرئاسة، وفاز بالمنصب لدورتين متتاليتين. تعلمنا الدرس الآن، غادرنا الميدان بعد رحيل مبارك ظنًا منا أن الثورة انتهت بمجرد إزالة رأس النظام الفاسد، لم نتصور أن هناك من قرأ التاريخ أفضل منا، وعرف أنه يجب أن يعلن انضمامه للثورة حتى يمكنه الالتفاف على أحلامنا، علمتنا التجربة أنك إن لم تستطع أن تقضى على ذيول الفساد، فسوف تقضى هى على ثورتك، مهما أخذت من الخطوات للإصلاح وللبناء، فسيسعون وراءك لتدميرها، ضمانًا لبقائهم الفاسد فى السلطة. ولكن الآن.. وبكل ثقة أقول إننا بفضل الله تعالى قد صنعنا تاريخًا جديدًا، وبدأنا نكتب ملحمة جديدة فى عمر الثورات، ليس لأحد منا فى ذلك فضل، بل هى إرادة الله تعالى وحفظه لهذه الأمة ولشعبها، اطمئنوا.. فإن يد الله تعمل، كونوا على يقظة حتى النهاية، ولكن فى نفس الوقت ليبدأ كل منا فى إنجاز ثورته على نفسه، فيغير ما بها من عيوب، ويقدم ما يمكنه من إصلاح للوطن، وعندها فقط تكون ثورتنا قد حققت كل أهدافها. [email protected]