على مدار أكثر من عام ونصف انشغلت أغلب القوى السياسية بالتفاصيل، بل وغرقت فيها معظمها وتركت المجلس العسكرى يضع القواعد الحاكمة لمجمل عناصر اللعبة السياسية فى مصر. وكان الخطأ الأكبر لأغلب تلك القوى السياسية هو إدارتها المعارك السياسية بعقلية الهواة فى حين كان الطرف الآخر (وهو المجلس العسكرى) الذى تولى إدارة البلاد يدير الصراع بعقل محترف: يدرك ماذا يريد، وكيف يصل إليه، وكيف يحقق أهدافه التى ليست بالضرورة تأسيس الجمهورية الثانية بقدر ما هى استمرار لحكم العسكر القائم منذ انقلاب 1952. تعاملت أغلب القوى السياسية بمنطق الهواة فخسرت أغلب معاركها، وحكمها المنطق الفردى فلم تشكل تحالفات كبرى توازن قوة وهيمنة المجلس العسكرى على الأرض (باستثناء انتخابات مجلس الشعب الذى كثيرًا ما أفسد التحالف الذى حاولت جماعة الإخوان تشكيله هو محاولات الاستئثار مما جعل الشركاء يغادرون التحالف). فى الشهور الأولى للثورة حاول قادة المجلس العسكرى يصدرون صورة ذهنية بأنهم يسمعون كل الأطراف وأنهم فعلاً لا يعلمون شيئًا عن الأبعاد السياسية، وأنهم على مسافة واحدة من جميع الأطراف وأنهم جادون فى مغادرة السلطة فى الموعد الذى حددوه وهو ستة أشهر. وظن كل تيار سياسى أنه يستطيع أن يكسب هؤلاء القادة أو العسكريين لصفه أو محاولة توظيفه فى مشروعه الفكرى وترك العسكر الجميع يتوهمون تلك الصورة الساذجة. كان العسكر يراهنون على أمرين: مرور الوقت، وأخطاء القوى السياسية، وصدق رهانهم فكلما مر الوقت زاد تمكنهم فى السلطة، وزاد تشبثهم بها، وكلما مر الوقت زادت أخطاء القوى السياسية والثورية والإسلامية بالطبع، واستثمروا تلك الأخطاء استثمارًا جيدًا فى التخويف من الثورة ومن الإسلاميين وبث الذعر ونشر الخوف وعدم قدرتهم على إدارة شئون البلاد، وأن العسكر مؤتمنون على مصر لا يمكن أن يتركوها لجماعات تغامر بها أو لشباب لا يحسنون إدارة الشأن العام. وعمل الإعلام الفاسد كأهم الأذرع الفاعلة على نشر تلك الرؤية وهو إعلام ذمّار (كما قلت فى مقالى السابق: من يدفع للزمار؟) وهو يزمر لمن يحكم ولمن يدفع له. ونجحت حملات شيطنة الثورة وشيطنة الثوار ونجح فى استثمار أخطاء الإسلاميين وعمل على تعميقها وبث الفرقة بين مختلف القوى السياسية (سياسة فرق تسد) وأصبحت القوى السياسية تخشى من بعضها البعض بأكثر من خشيتها من المجلس العسكرى. وأدخلتنا القوى السياسية والإعلام الفاسد فى قضية الدولة الدينية والدولة المدنية.. وكأن العسكر أصبحوا حماة الدولة المدنية فى تزييف واضح للحقائق وتلبيس فج على الشعب الذى آمل فى الثورة أن تحسّن من أوضاعه فإذا بها تزداد سوءًا حتى كره الناس الثورة والثوار. مكر الليل والنهار حتى ضج الناس من الثورة بعد سلاسل الأزمات المتوالية التى كل واحدة هى أكبر وأسوأ من أختها، فمن أزمة أمنية خانقة وفوضى أمنية عارمة تضرب أطنابها فى كل نواحى الحياة إلى أزمة البنزين والسولار إلى أزمة الغاز حتى أزمة رغيف العيش، أزمات بعضها مفتعل وبعضها حقيقى لكنها تأخذ بخناق المواطن وتمس صلب حياته وضرورات معاشه. على مدار أكثر من عام ونصف لعبت القوى السياسية فى الهوامش وعلى الحواف، ولعب المجلس العسكرى فى المتون وفى الصلب، كانت رؤيته واضحة وهى مد الفترة الانتقالية أطول حد ممكن والتمكين للمؤسسة العسكرية بشكل يجعلها دولة فوق الدولة وليس دولة داخل الدولة (كما يقال خطأ). كانت المعارك الحقيقية على قواعد تشكيل الدولة المصرية الجديدة وعلى الأطر الحاكمة لها وعلى القواعد التى تعيد صياغة صورتها الداخلية والخارجية، واكتفت أغلب القوى السياسية باللعب طبقًا لما قرره المجلس العسكرى من قواعد، وكان هنا الخطأ الإستراتيجى لتلك القوى، فالدول حين يعاد تشكيلها يكون الصراع على قواعد التشكيل والأطر الحاكمة لفلسفة الدولة وليس الصراع على نسب مشاركة هنا أو عدد مقاعد برلمانية هناك. تلك هى المعضلة أن تلعب فى المتن والصلب أم تجرى خارج تراك مفاصل التأثير أى أن تجرى فى الهوامش والحواف. كلمة أخيرة: أخيرًا أعلنت النتيجة وفاز الدكتور محمد مرسى وعليه وعلى من يدعمه أن يفكر ويقدر، هل سيلعب فى المتون أم سيجرى فى الهوامش والحواف؟ يكفى مصر ما مر بها وما حدث فيها من استقطاب لم يستفد منه غير العسكر، وآن أن تتفق جميع التيارات الوطنية على جملة قضايا تشكل الإطار الجامع لقضايا الاصطفاف الوطنى.