عندما يحتل اللصوص مقاعد السلطة، ويعتلى قُطّاع الطريق مِنصّة القضاء، وتقصف الدبّابات مبنى البرلمان، فاعلم أنك فى روسيا يِلْتِسِنْ، أو فى ألمانيا النازية، أو فى أي نظام شمولي مستبد مثل نظام القذافى ومبارك وبشار الأسد؛ حيث أبرز السمات المشتركة فى كل هذه الأنظمة: احتقار الشعوب، واحتقار القانون واحتقار المحاكم المدنية؛ فالشعوب لها القهر والإذلال، وتزوير إرادتها فى الانتخابات إذا وُجِدَتْ. أما القانون والعدالة فمجرد لافتتين معلقتين على جدران المحاكم ، مفرّغتين من المضمون؛ فالقوانين الاستثنائية مثل قانون الطوارئ تُستبدل بالقوانين الشرعية ، ويخْفُت صوت المحاكم المدنية ؛ ليعْلو صراخ المحاكم العسكرية؛ حيث الأحكام فيها نمطية سابقة التجهيز، والقرارات كلها معلّقة بأصابع الدكتاتور، أما وزراؤه ومساعدوه فمجرد أدوات ودُمًى يتلاعب بها فى كل شيء، وهو يختارهم عادة من بين أصحاب السيرة المُجَرّحة والعِلل الشخصية (لا بد فيها من شيء مكسور)، فالدكتاتور فى حاجة دائمًا إلى مطايا سهلة مُطيعة، يركبها ويهزّ رِجليْه. ألم تكن تلاحظ كيف كان يقف الجنزورى رئيس وزراء المخلوع أمام سيده مشبّكًا يديه على بطنه كتلميذ مذنب، وكيف كان هو وجميع رؤساء وزارات المخلوع يعلنون قبل كل اجتماع لمجلسهم: أنهم يجتمعون لتنفيذ توجيهات السيد الرئيس...؟! مشهد آخر من مشاهد العبث والمسخرة: أن الأحكام القضائية ما فتئتْ تتوالى بتبرئة الضباط المتهمين بقتل الثوار لافتقاد أدلّة الإدانة، وكأن الشهداء هم الذين قتلوا أنفسهم..! ، حتى وصلنا إلى الحكم بعدم دستورية قانون العزل الصادر من البرلمان، والحكم فى الوقت نفسه بعدم دستورية قانون الانتخابات، تمهيدًا لحل البرلمان نفسه؛ كأننا أمام مشهد لمجموعة من البلطجية هبطوا على سُرادق أفراح، لهدمه بالشوم والكراسى، كما كان يحدث فى عصر الفُتُوّات، الذى صوَّره لنا نجيب محفوظ فى بعض رواياته.. يفسر هذه الظاهرة المَرَضِيّة- التى أصابت القضاء المِصري- المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي القضاة السابق، فيقول: "مع عهد الرئيس المخلوع بدأت الحرب على القضاء، وتم اختراقه من قِبَلِ الأمن وبتعيينات من الشرطة..."، وأكّد أن السلطة السياسية "تستخدم سلاح المنح والمنع لكسب ولاء القُضاة، وأن هناك قُضاة يحصلون على ملايين فيما أن قضاة آخرين يحصلون على ملاليم"، وأكد "أن منظومة الحكم منذ عام 1952 كانت تضرب القانون، وتدهسه بالأقدام، وليس القضاء فقط...". وعلى كل حال، الناس يعرفون أن المخلوع هو الذى اختار طاقم أعضاء المحكمة الدستورية الحالى فى آخر أيامه تمهيدًا لفبركة توريث السلطة لنجله، فلا غرابة أن تكون محكمة مُسيَّسة: القانون فيها مجرد بضاعة وواجهة لزوم القداسة المزعومة...! ولكى نفهم الأمور على حقيقتها لا بُدّ أن نُسقط هالة القداسة الزائفة التى تعلّقها الأساطير على القضاء والمحاكم، والعدالة معصوبة العينين؛ لأن هذه عدالة عمياء، أما العدالة الحقيقية فلا يمكن إلا أن تكون عدالة مبصرة...! وحكم المحكمة الدستورية ليس استثناءً من هذا؛ فالعبثية والهوى السياسى واضح فى حيثياته اللامنطقية، وفى توقيت إعلانه، وفى إصرار أعضاء المحكمة على تأويل الحكم، بأنه يعنى إلغاء العملية الانتخابية كلها، مما يعنى وجوب حل البرلمان. وفى كل هذا يتجاوز القضاة صميم اختصاصهم، ويخوضون فى أمور سياسية تثير الاضطراب، وتؤجج الصراع فى المجتمع. وهكذا.. حيثما توجَّهت بنظرك تذهلك هذه الحقيقة: أن الفساد ناشب بأظافره فى كل ركن وكل مرفق وكل مؤسسة، ولم يعد أمام الشعب إلا فرصة أخيرة لإنقاذ الثورة، والمحافظة على ما تبقّى من عافيتها ومنجزاتها: الاحتشاد لإسقاط أحمد شفيق، وإسقاط عناصر الثورة المضادة التى تسانده، وإلا فلا مجال للأمل فى إعادة الحقوق إلى أصحابها، ولا فى إقامة العدل والقِصاص لدم الشهداء، ولا أمل فى نهضة ولا حياة كريمة وشريفة لهذا الشعب.. هذه هى نقطة الضوء الوحيدة فى نفق مظلم كئيب، فلا تَدَعوها تفلت من أيديكم. وفى انتظار ما تسفر عنه نتائج انتخابات الإعادة دَعْنا نروّح عن أنفسنا بمشهد مثير للضحك فى محاكمة عبثية جرت فى "سراييفو" عاصمة البوسنة سنة 1983، وصف تفاصيلها الرئيس الراحل على عزت بيجوفيتش فى مذكراته: فقد اُعتُقِل مع مجموعة من أصدقائه الكُتّاب والمفكرين الإسلاميين، حيث وُجِّهت إليهم تهمة التآمر لقلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة فى يوغسلافيا، تمهيدًا لإقامة دولة إسلامية كبرى، تشمل أوربا كلها وتحويلها إلى الإسلام..! لم يكن هناك أسلحة، ولا مليشيات ولا منشورات، ولا ورقة واحدة مكتوبة، ولا غرابة فى هذا؛ فالعادة المألوفة فى النظم الشمولية أن تقدِّم معارضيها إلى محاكمات صورية، بتهم ملفّقة، لتبرير سجنهم أو استئصالهم، وفى هذه الحالة لا يُعْوِزُها تقارير الأمن والاستخبارات، ولا توفير شهود زُور قد تمّ تلقينهم بواسطة خبراء الشرطة السرية تحت التهديد والإرهاب..! يقول على عزت فى مذكراته: تابَعَتْ المحكمة الاستماع إلى الشهود الذين لم تخلُ شهاداتهم من أقوال متناقضة أحياناً، ومثيرة للضحك أحياناً أخرى، وكان الحاضرون لا يكفُّون عن التّهامُسِ وتبادل التعليقات الساخرة طول الوقت، حتى جاء الشاهد المدعو "أنور باشا ليتش" الشهير باسم "حُجّة باشا"، وهو رجل مشهور بعباراته التى يمزج فيها الحكمة بالسخرية والفكاهة.. ولكنه تظاهَرَ أمام المحكمة بالغباء والصمَم، فهو لا يفهم جيداً، ولا يسمع جيداً.. فما أن انتهى القاضى من توجيه السؤال إليه حتى شرع يتحدث حديثًا طويلاً على مدى ساعتين، فى مسائل لا علاقة لها بموضوع القضية.. وقد حاول القاضى أن يعيده إلى نقطة السؤال الموجّه إليه دون جدوى.. فقد استمر يروى حكايات ويورد تفاصيل لا صلة لها بموضوع القضية.. وأدرك جمهور الحاضرين أنهم أمام مشهد هزلى فى مسرحية عبثية، انتزعت منهم الضحك، مما أثار غضب القاضى، فتوجه للشاهد محذرًا: "أنت تقول للمحكمة كلاماً مختلفاً عن أقوالك فى محضر التحقيق.."، فاعترض الرجل، وقال ببساطة وهدوء: "أبداً، يا سيدى القاضى.. إنه نفس الكلام الذي أدْليْت به فى التحقيق.. لكن ربما كان تسجيل الكلام هو المختلف، ولا أعتقد أننى قلت للمحققين كلاماً مختلفاً عما قلته الآن.."، فلما رأى القاضى أنه لا فائدة من هذا الشاهد المعتوه، وأنه ليس فى الإمكان الحصول منه على شىء مفيد أخذ يتلفت حواليه، كأنه يبحث عن مساعدة غير منظورة، فلما يئس وأدرك أنه لا بد من إنهاء هذا الموقف العبثىّ، أمر الشاهد بالانصراف، قائلاً له: "اذهبْ ولا أريد أن أراك هنا مرة أخرى..!".. فتطلّع الرجل فى بلاهة إلى المنصة، ثم قال: "إننى متأسف جداً يا سيدى القاضى". يقول على عزت: "تحوَّل الشاهد إلى قفص المتهمين، حيث كنا نجلس، وألقى علينا تحية الإسلام بلهجة البُشْناق القدامى "الله إيمانيت"، ورفع يده اليمنى ملوٍّحًا إلينا بنفس الطريقة التقليدية.. فانفجر الحاضرون بالضحك فيما عدا القاضى ونائب الادعاء.. أصابهم الذهول..!، جاء بعد ذلك خمسة عشر من الشهود فأدلوْا بشهادات نمطية، كانوا يحفظونها عن ظهر قلب. ثم وقف على عزت يدافع عن نفسه، فقال: "إننى أحب يوغسلافيا، ولكنى لا أحب هذه الحكومة.. وأنا لا أُحاكَمُ هنا فى هذه القضية؛ لأننى خالفت قوانين البلاد، ولكن لأننى خالفت بعض قواعد غير مكتوبة، فرضَتْها حِفْنةٌ من أصحاب السلطة والنفوذ.. أباحتْ لنفسها أن تشرّع للناس ما هو مسموح به، وما هو محرّم عليهم، دون أى اعتبار للقانون أو الدستور".. لم يعتذر ولم يلتمس لنفسه العفو، فقد كان يعلم أن المقصود بالمحاكمة هو الإسلام نفسه أكثر من أى شىء آخر.. فألقى بقفاز التحدى فى وجه المحكمة وهو يضيف: "أود أن أقرر هنا أننى مسلم، وسأبقى كذلك تحت كل الظروف، فأنا أعتبر نفسى مناضلاً من أجل الإسلام فى هذا العالم، وسأظل ملتزماً بموقفى مادام فى صدرى نفَسٌ يتردد.. ذلك لأن الإسلام بالنسبة لى هو اسم آخر لكل ما هو رائع ونبيل فى هذه الدنيا.. إنه اسم لوعدٍ وأملٍ فى مستقبلٍ أفضل للشعوب المسلمة؛ أن يحيوْا بحرية وكرامة.. مستقبل كل شىء فيه يستحق التضحية..". كانت أحكام المحكمة جاهزةً مسبّقًا، إذْ حكمت على المتهمين جميعًا بالسجن مع الأشغال الشاقة، لمُدد تتراوح بين خمس سنوات، إلى خمس عشرة سنة، كانت من نصيب على عزت.. خُفّفَت فى الاستئناف إلى أربع عشرة سنة. ولكن بعد ست سنوات فقط انهار النظام الشيوعى فى العالم، وبدأت يوغسلافيا تتفكك، وخرج بيجوفيتش من السجن؛ ليجد نفسه زعيمًا للبوسنة، ثم رئيسًا لجمهوريتها فى نفس السنة، ثم قائدًا لنضالها المسلح ضد العدوان الصربى. وظل بيجوفيتش طوال فترة قيادته للبوسنة حريصًا على تأكيد الديمقراطية، ووَحدة الشعب مسلميه ومسيحييه، مدافعًا عن استرداد حقوق شعب البوسنة والنهوض به، ثم استقال من منصبه قبل أن تنتهى ولايته الثانية.. ليتفرغ لكتابة مذكراته، ويلتمس العلاج لما أصاب صحته من إنهاك، وما اعتورها من أمراض، خلال نضاله الشاق، حتى وافته المنية.. وصعدت روحه إلى بارئها.. وهكذا انتهت حياة واحد من أعظم مفكرى النهضة والإصلاح والحكم الرشيد فى القرن العشرين.. [email protected]