بعد واقعة قتل كليبر، انتشر الخبر فى القاهرة بسرعة البرق، فتلقاه الأهالى بالدهشة والجزع الشديد لتوقعهم الانتقام والنكال، وتلقاه الجنود الفرنسيون بالغضب والسخط والتحفز للوثبة على الأهالى الأبرياء، وضرب النفير العام فى أحياء القاهرة جمعًا لشتات الجنود، فأقبلوا من كل صوب وحدب إلى ميدان الأزبكية يتنادون بالانتقام والأخذ بالثأر ويهددون بإحراق المدينة، فاستولى الفزع على الناس وأقفلت الدكاكين، وخلت الطرق من المارة، وذهب كل إلى داره يطلب النجاة، من عواقب هذا الحدث الجلل، وأخذت دوريات الجنود تطوف الشوارع والأحياء وخاصة المجاورة لمنطقة الأزبكية، للبحث عن القاتل الذى كان بعد مختفيًا عن الأنظار، وأخذ جماعة الحراس يبحثون فى حديقة السراى لعلهم يعثرون عليه مختبئًا فيها. وبعد ساعة من ارتكاب الجريمة عثروا على القاتل مختفيًا فى الحديقة الملاصقة لدار القيادة وراء حائط مهدم، وأدركه اثنان من صف ضباط الحرس من الملازمين لدار الجنرال كليبر، فحاول الهرب ولكنهما قبضا عليه، وساقاه إلى دار رئيس أركان الحرب، حيث كان قواد الجيش مجتمعين، وكانت دلائل الجريمة بادية فى المكان الذى قبض عليه فيه، فالحائط الذى كان مختفيًا وراءه كان به آثار دماء، كما أن ملابسه كانت ملوثة بدم الجريمة، وعثروا على الخِنجر فى المكان الذى قُبض فيه على القاتل وعلى نصله دماء القتيل، فلما سِيقَ القاتل إلى منزل الجنرال داماس استجوبه الجنرال مينو، وواجهه بالمهندس بروتان، فتعرفه وأرشد عليه من جماعة من العمال وضع بينهم خصيصًا للتأكد من صحة التعرف، وشهد الشهود بأن القاتل كان يتبع خطوات الجنرال كليبر منذ عدة أيام، فقد رأوه فى الجيزة يسعى فى الدخول إلى مقر القائد العام بحجة تقديم عريضة إليه، ولكن المسيو بيروس، سكرتير كليبر الخاص، رفض الإذن له بالمقابلة. أصدر الجنرال مينو (كان قومندان القاهرة، وأقدم جنرالات الحملة الفرنسية فى مصر، وخلف كليبر فى قيادتها) فى اليوم نفسه أمرًا بتأليف محكمة عسكرية لمحاكمة قتلة كليبر، وهذه المحكمة مؤلفة من تسعة أعضاء من كبار رجال الجيش برئاسة الجنرال رينيه، وعهد إلى القوميسير سارتلون، مدير مهمات الجيش، القيام بوظيفة المدعى العمومى، وانعقدت المحكمة فى اليوم التالى الموافق لمثل هذا اليوم عام 1800، وقررت أن يتولى الجنرال رينيه، والقوميسير سارتلون إجراء التحقيق وجمع البيانات للوصول إلى معرفة المتهمين. تولى القوميسير سارتلون تحقيق القضية، فكتب محضرًا باستجواب سليمان الحلبى عقب الحادثة واستجواب المتهمين الآخرين، وأخذ فى سماع أقوال الشهود، فقال جوزيف بيران، من فرسان الحرس، إنه هو والفارس روبرت عثرا على القاتل مختبئًا فى الحديقة وراء حائط متهدم، وعلى الحائط آثار الدماء، وأن القاتل كان أيضًا ملوثًا بالدم، فقبضا عليه وهو فى هذه الهيئة، وأنهما عثرا بعد ساعة من اعتقال الجانى على خنجر مدفون فى المكان الذى كان مختبئًا به وعلى نصله دماء. (يتبع غدًا..).