تأليف وإخراج الإعلان التجارى والتنويرى والتثقيفى فنٌّ ومهارةٌ وإبداعٌ لا يقلُّ أهمية– بل ربَّما يتفوق على التأليف والإخراج السينمائى. وفى الإعلان التوعوى يريدُ صاحبه إيصال رسالة مركَّزةٍ وفعَّالةٍ فى أقصر وقتٍ ممكنٍ؛ بحيثُ يظلُّ أثرها ومفعولها على المشاهد أطول فترةٍ ممكنة. وقد أضاف مبدعو التليفزيون المصرى إلى فتوحاتهم وأمجادهم مجدًا جديدًا بإعلانٍ يُحذِّر من الجواسيس الأجانب.. والإعلان مُصاغٌ بصورةٍ ساذجة للغاية عن جاسوسٍ يدخل مقهى للشباب من الجنسينِ فيُقابَل ب(حضن) على الطريقة الروشة إظهارًا للكرم المصرى الموروث من عصور (البادية) التى لم نغادرها بعدُ. ثمَّ (يندلقُ) الشباب والفتيات بسرد خفايا البلد التى لا يعرفها أحدٌ مثل أزمات السولار والمواصلات والأسعار، وهى كما ترى ملفات سرية للغايةِ، لم يسمع بها مواطنو كوكب (بلوتو) بعدُ! ثمَّ يقول العبقرى كاتب الإعلان: (معلومات مهمة خَدها ببلاش؛ يعنى الجاسوس الأجنبى)، ويقصد طبعًا أنّ غيره من الجواسيس المتسترين تحت عضوية منظمات المجتمع المدنى قد أخذوا معلوماتهم بفلوس، ودفعوا الثمن غاليًا على (البورش) فى السجون المصرية، ولم يتم تهريبهم فى طائرات خاصة كما يدَّعى بعض المغرضين! يبقى إزاى يا عبيط إنت وهو تعطوا معلومات كده ببلاش! لأ والله ما لكوش حق!! والإعلان يُروِّج لنظرية (الكنتاكى) الشهيرة، التى تطورت بعد ذلك إلى نظرية (البونبونى) بعد التعديلات الفذَّة التى أدخلها عليها (الفريق). وطبعًا فتح هذا الإعلان الكارثة لتريقة الغرب علينا، وألزمونا بلازمِ هذا (العبط) ألا وهو أننا نُحرِّم الصحافة، وأننا ضدّ حرية الرأى والتعبير. ووصل الأمر أنَّك لا تتصفح جريدةً أمريكية وأوروبية كبرى هذه الأيام إلا وتجد فيها ما يتخذُّ من هذا الإعلان مادة للسخرية منَّا. الفكرة نفسها حقٌّ، والرسالة فعلاً يجب أن تصل ألا وهى أنَّ الكلمة تنقذ وطنًا، ولكن بمثل هذه الصورة الطفولية فالرسالة عكسية بامتياز، والإعلان يُغرق وطنًا. وفى النهاية يضطر التليفزيون لإيقاف الإعلان، لتضاف إلى سلسلة الإخفاق الإعلامى، وإهدار المال العام حلقةٌ جديدة، وبالتأكيد ليست أخيرة.. وسيمرُّ الأمر مرور الكرام دون حساب ولا تحقيق، بل ربَّما نال هذا المبدعان؛ كاتب الإعلان ومخرجه جائزة الدولة التشجيعية! دفعنى هذا الموقف لاستدعاء سلسلة إعلانات لقناة (العربية) عن الإرهاب، والتى يُصر فيها المُعلنون إمَّا على إظهار الإرهابى فى صورةٍ الملتزم المسلم أو تسميته باسمٍ إسلامى، لتصل – مع التكرار والإلحاح – الرسالة المطلوب إيصالها ألا وهى أنَّ الإرهاب إسلامى، وأن الإسلام إرهابى! من حقنا أن نتساءل: صناعة الإعلان العربى إلى أين؟