الحج عبادة العمر و رحلة العمر، رحلة محبوبة و عبادة مطلوبة وطاعة مرغوبة " لمن استطاع اليه سبيلا " الحج عبادة قولية ورحلة قلبية وقربة بدنية ومالية تؤدى في أمكنة مخصوصة وفي أزمنة مخصوصة وأعمال مخصوصة .. فإذا كانت الصلاة تتكرر في اليوم الواحد خمس مرات، وفريضة الجمعة تؤدى كل أسبوع، وفريضة الصوم تؤدى في العام شهراً، فإن فريضة الحج تجب في العمر كله مرةً واحدة. كيف ؟ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ قَالَ فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا الْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ أحمد عن ابن عباس الحجُّ رِحلة روحيَّة، ودلالةٌ رمزيَّة، وشَعيرة تعبُّديَّة، تنقل العبدَ إلى آفاقٍ عالية وأخلاق ربانيَّة، فيرجع من رحلته كيوم ولدته أمه! " مَن حجَّ فلم يرْفُث ولم يفْسُق، رَجَعَ من ذنوبه كيومَ ولدَتْه أمُّه " متفق عليه. الحجُّ قوَّة روحيَّة بالذِّكر والدعاء، وقوة اقتصاديَّة بالبيع والشراء، وقوَّة اجتماعية بالحبِّ والإخاء، وقوة سياسيَّة بالتشاور وجَمع الآراء. إنها أوقات اقسم الله تعالي بها في القران ، ولا يقسم الله إلا بعظيم " وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ"(الفجر:1-2) الكل بين تهليل وتكبير ، بين تمجيد وتحميد ، بين دعاء وثناء ،بين شكر وتسبيح، انتظارا لرضوان الله ، وحبا لطاعة الله ، وإتباعا لسنة رسول الله ، يهتفون للخالق لا للمخلوق ، يهتفون لله الذي بيده الأمر كله ، والرزق كله ، وهو علي كل شيء قدير . أيام العمل الصالح أحب إلي الله فيها من أي أيام أخري كيف ؟ عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء... قال الشيخ الألباني : صحيح ...! كيف لا والحجاج والعمار وفد الله ان سألوه أعطاهم وان دعوه اجابهم وان استغفروه غفر لهم وان اتفقوا اخلف عليهم. كيف لا والحاج يرجع من حجه كيوم ولدته امه.، مستور العيوب مغفور الذنوب مكشوف الكروب . كيف لا وهو في بيت الامان لا يقطع شجره ولا يصاد صيده ولا يروح طيره ولا يسب زائره ولا يلحد فيه " ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم " كيف لا وهو في مكان كله ايات " فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا " كيف لا وهو في بيت الطهر والطهارة " وعهدنا الي ابراهيم وإسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين العاكفين والركع السجود " كيف لا وهو في بيت الامن " واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا ولله علي الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين " لذلك من ذهب إلى بيت الله الحرام، فطاف حول الكعبة، وسعى بين الصفا والمروة، و وقف في عرفات، وعاد كما ذهب، ما قطف ثمار الحج. من غلب على ظنه وهو في عرفات أن الله لن يغفر له فلا حج له. إنه موسم من مواسم الطاعة ، وعمود من أعمدة الدين ، وركيزة من ركائز الإسلام ، شعائر ومشاعر ، يجب أن يعيشها المسلم ، ويحياها المؤمن ، ليأخذ منها الدرس والعبرة ، ويستخلص منها السلوك والتطبيق . في هذا الموسم تزدان الأرض بوفود الحجيج ، وتضيء السماء بنور الملأ الاعلي ، وتتألق الكعبة ، وسط الدنيا ، وصرة الأرض ، ومركز المعمورة ، وبؤرة التقي والصلاح، و مصدر النور و الإيمان ،ومنبع الصفاء والنقاء...!! تمتاز عن مثيلاتها لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتي ذلك في غيره . قال ابن القيم في زاد المعاد: : ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية". وفي سنن أبي داود: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر". يعني عدا أيام العيد. وصحّ عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثرُ من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة". وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك " . وكان إذا استلم الحجر الأسود قال " بسم الله والله اكبر " اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاءً بعهدك وابتاعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم " البخاري ، عبد الرزاق ،البيهقي وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود :" ربنا أتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار " رواه احمد ، ابو داود ،النسائي وبين الصفا والمروة : "رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" وإذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل على الصفا. وفي صحيح مُسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَرَّ في حجِّه بوادي الأزرق، فقال: أيُّ وادٍ هذا؟ قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: كأنِّي أنظر إلى موسى - عليه الصلاة والسلام - هابطًا من الثَّنِيَّة له جُؤار إلى الله - تعالى - بالتلبية، ثم أتى على ثَنِيَّة أخرى، فقال: أيُّ ثنية هذه؟ قالوا: ثنية كذا وكذا، قال: كأنِّي أنظر إلى يونس بن متَّى - عليه الصلاة والسَّلام - على ناقةٍ حمراء، عليه جبة من صوف وهو يُلبي...!! وكل أعمال الحج من اجل التوحيد والإخلاص والتلبية ...!! المؤمن يجب أن يلبي إذا نودي للصلاة ..! ويلبي إذا نودي للزكاة .. ويلبي إذا نودي للحج ...ويلبي إذا نودي للصوم ...حتى يستطع أن يلبي إذا نودي للجهاد لان من خان حي علي الصلاة خان حي علي الجهاد ....!! روي عن الفاروق عمر: أن النبيصلى الله عليه وسلم استقبل الحجر، ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب يبكي، فقال: يا عمر ها هنا تسكب العبرات . سنن ابن ماجه كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : خذوا عني مناسككم . والقرآن يقول : " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فاتتهوا " لذلك ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه وهو يقبل الحجر انه قال : اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لنبيك ، والله اني لأعلم انك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا اني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك . نفحات عظيمة ، وإهداءات ذات قيمة ، وكنوز نادرة وكريمة ، وأجور جليلة ليس له نظير ولا يعدُلها مثيل ، أيام العشر من ذي الحجة ..!! قال عمر لرسول الله الا نتخذ من مقام ابراهيم مصلي ؟ . جاءت الاجابة من السماء موافقة لرأي عمر : " واتخذوا من مقام ابراهيم مصلي " وبعد الانتهاء من الحج اخذ بعض الناس يتفاخرون بالانساب ، فيذكرون الاباء والاجداد فانزل الله تعالي قوله " فاذا قضيتم منايككم فاذكروا الله كذكركم ابائكم او اشد ذكري " أقبلوا على ربكم بقلوب راغبة ، وأرواح طاهرة ، ووجوه خيرة ، ونفوس طائعة لله وطامعة في ثوابه وجزاءه، وابحثوا في جنة عرضها السموات والأرض، ولا تفرِّطوا في هذه الفرص الذهبية النادرة ... انها مشاعر لا توصف ، وأحاسيس لا تكتب ، إنما يستطعمها الذي يؤديها ، ويحسها الذي يسويها ، ويستشعرها الذي يحضرها ، فينظر الكعبة ،و يعانق الحجر ، ويصلي عند المقام ، يسعي كما سعت هاجر عليها السلام ، ويضحي كما ضحي إبراهيم عليه السلام ، ويطع كما أطاع إسماعيل عليه السلام ، ويطوف كما طاف محمد عليه الصلاة والسلام ، ويقبل الحجر كما قبل عمر رضي الله عنه ، فقط عن حب ورغبة وإخلاص ، لعل قدم تأتي مكان قدم ، وطواف يأتي مكان طواف ، وسعي يأتي مكان سعي ، فيزداد الإيمان و يكون الغفران ، وينتشر الأمن ويأتي الأمان. رحلة عظيمة في ايام عظيمة حيث يوم التروية امواج الحجيج تزدلف الي مني ويوم عرفة اكثر الايام عتقا من النار ، ويوم النحر اعظم ايام الدنيا ، انها الرحلة قبل الاخيرة فاحرصوا فيها علي التقوي والاخلاص .. الإنسان يسافر لطلب الرزق، يسافر لطلب العلم، يسافر لطلب الزيارة ، يسافرلطلب السياحة دينية او دنيوية ، هناك أغراض كثيرة جداً وراء السفر بعضها مباح، وبعضها فرض، وبعضها مكروه، وبعضها حرام، إلا أن الحج يتميز عن كل أسفار الإنسان لأنه رحلة إلى الله، بل هو الرحلة قبل الأخيرة إلى الله، لأن الرحلة الأخيرة هي رحلة الموت . كأن الإنسان إذا حجّ بيت الله الحرام وجد أن الناس جميعاً يقفون لا تمايز بينهم، متجردين من حظوظ الدنيا ، بلباس ابيض لا مخيط فيه ، أحياء يدبون علي الارض بأكفان الموتي ، كلهم لآدم وآدم من تراب ، سواسية كأسنان المشط لا فرق بين غني وفقير، وقوي وضعيف، وأمير وخفير، وحاكم ومحكوم ، كل الناس سواسية في أداء هذه الفريضة العظيمة . اللهم ارزقنا حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا ... تقبل الله منا ومنكم وجزاكم الله كل خير وكل عام وانتم بألف خير .. [email protected]